عندما يُنشر هذا المقال (اليوم الخميس 22 يناير/ كانون الثاني 2015) يكون مضى 245 يوما على خلو القصر الجمهوري في لبنان من رئيسه بعدما انصرف الرئيس العاشر (عدا 2 قضيا اغتيالا) من دون أن يكون جرى انتخاب خلَف له. وتلك سابقة في تاريخ الرئاسة التي هي حصة الطائفة المارونية عملا بصيغة المحاصصة. وبعد انصراف الرئيس العاشر ميشال سليمان - وهو الجنرال الثالث الذي تبوأ المنصب بعد الأول الجنرال فؤاد شهاب والثاني الجنرال إميل لحود - دخل لبنان في حالة الفراغ الرئاسي وبات القصر الجمهوري مهجورا لأن أقطاب الطائفة المارونية لا يتفقون. وليس في الساحة السياسية سوى التنبيه بين الحين والآخر من هذه المرجعية الدينية أو تلك، وبالذات البطريرك الماروني الراعي الذي في كلامه وجولاته الداخلية والخارجية يتصرف بما يُفترض برئيس البلاد لو كان على كرسيه في القصر التصرف، وسوى التمنيات من هذا المسؤول العربي أو الدولي خلال زيارة إلى لبنان، أو خلال جولات يقوم بها سفراء أميركا وروسيا ودول الاتحاد الأوروبي ويدعون خلالها إلى الإسراع في انتخاب رئيس. وحتى أكثر سفيريْن يعرفان حقيقة الأزمة، وهما السفير السعودي علي عواض عسيري والسفير الإيراني محمد فتحعلي، نجدهما في كل مرة يسألهما سائلون يقولان الكلام الذي لا يلمس جوهر الأزمة المستعصية. وكان لافتا أن الاثنين قالا في يوم واحد ما يؤكد ذلك، فالسفير فتحعلي قال: «إن لبنان بلد لا يمكن لأحد فيه اللعب بالخفاء (مع أن اللعب في أعلى حيويته في الخفاء والعلن)، وإن من حق المجتمع المسيحي في لبنان أن يختار رئيس الجمهورية». والسفير علي عسيري قال: «إن المملكة لا تتدخل بالوضع الداخلي اللبناني كما الحال مع أي دولة أخرى، ونقول للبنانيين اختاروا رئيسكم ونحن نبارك لكم...». جوهر الأزمة الذي لا يقال على الملأ هو أن إيران وسوريا و«حزب الله» ليست قادرة على تكرار ما حدث سابقا عند اختيار الجنرال إميل لحود رئيسا للجمهورية. وهذا الثلاثي بالتالي لا يملك الشخص البديل للجنرال ميشال عون الذي يعرف ذلك فيتمسك باعتبار نفسه مرشحا للرئاسة، وبأنه إذا كان لن يترأس هذه المرة وهو في هذه السن المتقدمة فإنه لن يترأس أبدا، كما لن يكون صاحب دور مستقبلا. وفي المقابل فإن «الجبهة» المضادة غير متمكنة من فرْض الحل، وتدرك حجم المأزق الذي تعيشه «الجبهة» الأخرى. وعلى هذا الأساس فإن حالة الفراغ الرئاسي مستمرة ما دامت القوى الفاعلة في الطائفة المارونية عاجزة عن أن تختار مَن يترأس. أمام هذا المأزق هل من المحتمل أن يتوافق المجتمع الدولي على اعتماد صيغة ما قبل استقلال لبنان عام 1943، وهي أن يترأس الدولة مسيحي ما ليس بالضرورة أن يكون مارونيا، ويكون ترؤسه مؤقتا إلى أن يتفق موارنة لبنان على الشخص التوافقي؟ وعندما نستحضر هذا الاحتمال فإننا نستند إلى 4 حالات تتمثل في رئيس الدولة الأول الأرثوذكسي شارل دباس الذي ترأسوه مرتين (1 سبتمبر/ أيلول 1926 إلى 2 يناير 1934)، وبذلك كان في ترؤسه مرة ثانية مثل ترؤس كل من إلياس الهراوي وإميل لحود عن طريق التمديد في عهد الاستقلال. وشارل دباس من بورجوازيي أرثوذكس لبنان، قصير القامة، متربنط دائما، كبير الأنف، بنظارتين طبيتين، يدخن بكثرة ولا يشرب الكحول، وقد جيء به رئيسا مع أن الموارنة هم الأكثر عددا. ويروى عنه تقشفه ونزاهته وميْله إلى قراءة الكتب، ويحرص على أن يكون في مكتبه في الثامنة صباحا، كما أنه لا يستعمل سيارة الرئاسة إلا عند قيامه بالوظيفة (في عهد الاستقلال المواكب الرئاسية هي المألوفة) يشبه في ذلك الجنرال فؤاد شهاب الرئيس الثالث في عهد الاستقلال. بعد شارل دباس الأرثوذكسي جيء بأول باشا ماروني رئيسا للجمهورية، وهو حبيب باشا السعد من 30 يناير 1934 إلى 20 يناير 1936 (أول مسيحي في الشرق الأوسط مُنح لقب باشا من الباب العالي ردا على حملة تبرعات قام بها للمنكوبين في إسطنبول). وكما حدث للرئيس السلَف شارل دباس حدث له، حيث جدّدوه الرئاسة سنة بعد انقضاء السنة الأولى. ويُروى عنه أنه كان وجيها بأسلوب تركي، وعندما جيء به استبشر الموارنة خيرا على أساس أنهم بموجب الأكثرية العددية هم الأحق بين المسيحيين بمنصب الرئاسة. كما يُروى عنه تواضعه وحُسن وفادته لسكان الأرياف الذين يفدون إلى العاصمة. بعد حبيب باشا السعد جيء بدءا من 24 أكتوبر (تشرين الأول) 1941 إلى 18 مارس (آذار) 1943 بالمحامي والإعلامي ألفرد نقاش كاتب المقالات بالفرنسية التي تعالج قضايا لبنان في صحيفتيْن تصدران بالفرنسية في القاهرة. وهو كان عمل محاميا في القاهرة بعد تخرّجه في فرنسا. وفي هذه المقالات كان يطالب بتحرير لبنان من السلطنة العثمانية وتأمين مرفأ له في جونية. وكما حال بعض المطالبات بين الحين والآخر في أيامنا هذه من الفعاليات الاقتصادية والمجتمعية بإعلان العاصمة بيروت مدينة منزوعة السلاح ولا استجابة من جانب «حزب الله» لهذه الدعوات، فإن تجار بيروت في عهد رئاسة ألفرد نقاش طالبوا بجعل بيروت مدينة مفتوحة لتجنيبها ويلات الحرب. وفي زمن ألفرد نقاش كان رمز الطائفة السُنية قوي الشكيمة؛ بدليل أنه عندما طلب الرئيس ألفرد نقاش من رئيس الوزراء سامي الصلح أن يستقيل قال الثاني: «لا أستقيل إلا أنا والرئيس». لكن الاثنين اتفقا على مواجهة المفوض السامي الفرنسي بتظاهرة جرت في ذكرى المولد النبوي، فأصدر المفوض (المستعمِر عمليا لبنان) قرارا بإقالة ألفرد نقاش وبترئيس أيوب تابت، وهو بروتستاني متعصب للكثلكة، وقد ترأسوه من 18 مارس إلى 21 يوليو (تموز) من عام 1943. ومن جملة القرارات التي اتخذها أنه منع التبول على الجدران وجنّد رجال الشرطة في بيروت لمطاردة المتبوّلين، كما حارب التزمير وطارد شخصيا سائق سيارة كان يطلق بوق سيارته (أي يزمّر). وإلى ذلك منع شرْب القهوة في الدوائر الرسمية وإنزال العقوبات بالموظف الذي يأتي بعد الثامنة إلى مكتبه. ويُروى عنه أنه كان نزيه الكف صريحا في صداقاته وتعصّبه. وفي حياته الخاصة كان بعيدا عن البهرجة، ولم يتزوج، وهوايته نظْم أشعار الزجل. الأرثوذكسي الثاني الذي ترأسوه (أقصد الفرنسيين المستعمِرين بصيغة الانتداب) الدولة من 22 يوليو إلى 21 سبتمبر 1943 هو المحامي والبرلماني المعروف بترو طراد، وكان ترأس مجلس النواب. ويُروى عنه أنه كان يستقبل الناخبين وغيرهم وهو يرتدي «البيجاما» أحيانا، كما أنه كان مثل الرئيس صائب سلام لاحقا يضع زهرة في عروة جاكيتته ويعتمر قبعة من القش صيفا، وأخرى من الجوخ الأسود شتاء. وعندما كان يخطب في البرلمان كانت صبغة الشعر تذوب من الحر فتتساقط حبيْبات على وجهه، ومن أجل ذلك كان لا يفارق المنديل يديه في مجلس النواب. وهو من جملة بعض رموز العمل السياسي الأرثوذكسي وغيرهم لم يتزوج ولم ينجب ولم يورّث ذرية سياسية عدا ابنة أخيه زوجة رئيس الجمهورية الرابع في عهد الاستقلال شارل حلو. بعد الأرثوذكسي بترو طراد (المعيّن من سلطة الانتداب الفرنسي) ترأس بشارة الخوري (الماروني) بموجب عملية انتخابية، وإنما في ظل سلطة الانتداب أيضا، ثم تلاه بالتعيين إميل إده. وبعده كان استقلال لبنان وكان ميثاق 1943 الذي تم التوافق عليه بأن تكون رئاسة الجمهورية للموارنة ورئاسة مجلس النواب للشيعة ورئاسة الحكومة للسنة. ورغم تثبيت «اتفاق الطائف» لهذه الصيغة - التسوية بعد حرب أهلية طاحنة، فإن ورقة السلاح في يد الشيعة متمثلين «حزب الله» و«حركة أمل» طرح على بساط المحاصصة نوايا غير معلنة رسميا، وهي تثبيت مبدأ المثالثة (مسيحيون - سنة - شيعة) وإعادة النظر في مسألة الرئاسات، بمعنى أن يكون رئيس الجمهورية بعد تعديلات الدستور شيعيا ورئيس مجلس النواب مارونيا. وتحت وطأة هذه النوايا غير المعلنة وما أفرزه التدخل السوري العلوي تحديدا، والإيراني الشيعي، انتهى الأمر إلى أن انتخاب رئيس للجمهورية من الطائفة المارونية ليس بالأمر السهل.. أو أن يكون الرئيس مثلث الهوى (شيعي وسوري وإيراني) إلى حين، كما حال الجنرال ميشال عون. وبسبب هذه العقدة المستعصية يستعيد اللبناني المطلع على تاريخ الحُكْم صيغة ما قبل الاستقلال وإمكانية الأخذ من جانب «الانتداب الدولي العربي - الفارسي» للبنان وريث «الانتداب الفرنسي»، بالرئيس الذي تم تعيينه من سلطة الانتداب الفرنسي، كما حصل مع شارل دباس وحبيب باشا السعد وألفرد نقاش وأيوب تابت وإميل إده، أو منتخَبًا في ظل هذه السلطة، أرثوذكسيا كان أم بروتستانتيا أم مارونيا.. وإلا فقد تخطف المنصب لعبة الأمر الواقع.
مشاركة :