قراءة نقدية في رواية (بديع المحيا) لندى نسيم

  • 11/18/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

تطل علينا الكاتبة الروائية ندى نسيم بتجربتها البكر في عالم الرواية بـ (بديع المحيا) من واقع تجاربها وصميم حياتها العملية وخبراتها في مجال الصحة النفسية. يبدو العمل الروائي في شكل مشاهد وإسقاطات من الحياة على لسان الراوي وهي شخصية (غالية) حيث تقوم بسرد الأحداث وبطرح تساؤلات بما ينسجم مع التطور في السياق السردي. ينطلق أسلوب الراوي في بديع المحيا بمفردة الطلاق (أنتِ طالق) كمحطة انطلاق لتنسج مجريات الأحداث بما تحمله الكلمة (الطلاق) من إشكالات مجتمعية ونفسية وأسرية. وتقوم غالية بتوظيف علاقتها وحبيبها (عارف عبدالعزيز) بتركيز عال وذلك على امتداد العمل الروائي لتجعل منه رابطا ملفتا وعلامة استفهام يجيب عنها المتلقي. وفي هذا الإطار تسرد رؤيتها لمشروع الزواج في شكل علاقتها المميزة بعارف بأشكال من الوصف، ومن خلال هذه العلاقة تعمل حالة بين علاقتها المتأزمة بعد الطلاق بعارف مع أحداث بغداد وما تعرضت له إبان الاستعداد للضربة الأمريكية بعد احتلال الكويت. هذه المزاوجة أظهرت بطريقة ما رؤية الكاتبة لمجريات الأمور في تلك الفترة الحالة من تاريخ الأمة العربية المعاصر، وذلك بما ينعكس عل الكتابة الروائية وحالة التأزم الروحية العاطفية. أثناء ذلك تتبلور تدريجيا شخصية غالية الخالية من التعقيد.. تلك الشخصية البسيطة في تكوينها.. وهذا ما يجعل القارئ يعتقد أن الكاتبة رأت هذه الشخصية على أرض الواقع بنمطيتها حتى في رؤيتها للزواج كونه مشروعا بسيطا جدا مختزلة هذا المعنى في عبارة (وش غدانا اليوم) بما تعنيه من معاني إلى أن تنتهي علاقتها بعارف على خافية لحظات الضعف غير المفهومة التي يمر بها الأزواج نتيجة قلة الخبرة أو عدم الجاهزية ربما. ولم يكن واضحا في السياقات مبررات الفراق على أية حال ولعله لغاية في نفس الكاتبة. وفي هذا السياق تتضح ملامح شخصية غالية حين يصفه الراوي بـ(الكتاب المفتوح) ولعل هذا هو المبرر الذي جعلها تتعرض للأذى النفسي والروحي كما أرادت الكاتبة توجيه الوصف بهذا المعنى. وتلقى غالية الأضواء على بيئة العمل عندها بسرد جانب من حياتها الوظيفية في المكتبة في يوم عمل رتيب، تعود بعدها للمنزل لتلقى الرعاية من الخالة فخرية الأم البديلة بعد أن تخلت عنها والدتها الأرملة بعد زواجها. وهنا إسقاط في طرح صورة من الواقع الأسري المتأزم في مظاهره المختلفة كما بينت غالية ذلك في شكل علاقتها المزمنة الخيبة منذ نعومة أظافرها من جهة ومن جهة أخرى تتجلى حالة الخصوصية بوالدها الحنون وذلك في أنماط من التفكك الأسري الذي يدفع ثمنه الأبناء لاحقا. طرح الراوي نمط علاقة غالية بوالدها على نحو يظهر فيه قيمة الأبوة حينما قال (لو تطلبين لبن العصفور أجيبه) وقال أيضا (أريد غالية أن تبقى غالية). وعلى النقيض من ذلك تظهر شخصية والدة غالية لتعبر عن قيمة الأمومة المنخفضة في جمل مقتضبة مثل (فشليتينيجدامرفيجتي) وغيرها. وفي هذا الإطار تفتح المجال واسعا للأسئلة العالقة في المخيلة والعقل الباطن والمتعلقة بالمصير وإيقاع الحقائق التي لا مفر منها كالفراق والموت واليتم وغيرها من الحتميات. أسهمت هذه التساؤلات في إعطاء أبعاد لشخصية غالية الخالية من التعقيد وذلك في طقوس نفسية تتسم تارة بالحزن وبالأمل تارة أخرى حينما تستحضر مشاهد عزاء والدتها في حلم رأته كأنه واقع تعيشه إلا بوجوده المادي المحدود. تقنية الحلم تم توظيفها بشكل ناجح في تأكيد علاقتها النفسية لتلقى الأضواء بذلك على دواخل النفس الإنسانية من الأنانية والتمركز المريض حول الذات. في الظهور الآخر لشخصية (عارف هارون مدرب التنمية البشرية تتعزز تقنية الربط والإحالة والذي دعا بدوره غالية المذهلة من شخصية عارف بلونها الجديد لتصحو على صدمة أخرى لاحقا كانت متوقعة لشخصية كغالية بتكوينها البسيط الذي لا يخلو من الطهارة والنقاء. ولعل ذلك يمثل أحد المشاهد المؤلمة والقاتمة في واقعنا. كما يمثل ظهور عارف بنسخته الجدية انعطافة محورية في الحدث الروائي حين يبدأ في التصاعد الدرامي بشكل انسيابي وصولا إلى حبكة ممزوجة بأسلوب من الشد والتشويق. التقت غالية بالنسخة الثانية من عارف بعد مساء ثقافي ناعم مع صديقتها النموذجية وردة في محاضرة في التنمية البشرية. ويوظف الراوي الأحداث الأخيرة من لقاءات غالية بعارف هارون لتقريب عدسة القارئ من هذه الفتاة بصفاتها البريئة التي لا تخلو من السذاجة. وذلك في تأكيد على مسألة الرابط بين الشخوص وتوجيهها بما يتوافق الدرامي للقص. في النسخة الثانية من عارف نسخة تبدو متوارية خلف قناع وظهوره في لحظات ضعف غالية كان له دور في كشف أجواء اللؤم والخداع والنوايا الخبيثة للنفس البشرية. - امنحيني مزيدا من الوقت - المكتبة تحت أمرك ثم قال دون تردد امنحيني وقتا في مكتبة عمرك، دعيني أبحر في عينيك. بعض كلمات أودت بأنثى مجروحة من بائع عواطف محترف. هكذا أظهر الحدث الروائي في سياقاته إشكالات وقضايا في حياة المرأة من النواحي الأسرية والمادية.. ولعل ذلك تجلى في لقاء غالية بالراقصة الحالمة بالثقافة (نرجس) في الصالون وما كشفه من خفايا النفس البشرية وما يعتمل في عالمها من تفاعلات من ناحية القرار والتعاطي مع الظروف المفصلية في الحياة بحلوها ومرها وما قد تحمله من مفارقات. فنرجس تحولت من مشروع مثقفة إلى راقصة مؤدجلة تعاقب نفسها والدنيا على قدر كان من اختيارها لتبرز إفرازات التأزم الاجتماعي في ثنايا السرد في مشاهد بعيدة عن الأضواء عن الراقصة السرية وغير العادية والمحاطة بالكثير بالحواجز ما يبعث على التساؤل عن مصير هذا النمط الإنساني. أثناء ذلك كله تسرد غالية صورا جميلة بوصف بهي من علاقتها بعارف هارون بإيقاع الخفاء والتجلي المثيرين.. هذه الصور أظهرت قيمة الخبو أهميتها في كيان المرأة بوصفها أما ووطن حتى وإن كان مزيفا فلعله يكون مصدر الأمان المفقود. إن مسالة الوقوع في تجربة حب لأنثى مكلومة ليس بالأمر الاعتيادي ولذلك كانت غالية أو الراوي بصورة أخرى لم يكن قادرا على توصيف طبيعة علاقتها الجديدة ومدى مصداقية تجربة العشق المفاجئة. وهذا الحدث من الأسئلة المفتوحة في ثنايا العمل الروائي الباعثة على البحث والتأمل وكأنما كان الفراغ العاطفي لدى غالية محركا للأحداث ومظهرا لإشكالية فهم الحب ونتائجه. في رأينا فقد وفقت الكاتبة لطرح قضايا وقيم مجتمعية ثرية في متن الرواية. كما وفقت في خلق توازي في مسارات الأحداث يجانب قصة الحب المتأزمة مع الحبيب الأول والتي شكلت عصب السرد والعمود الفقري للأحداث. لقد أظهر حديث غالية مع نفسها (المونولوج) كثيرا من التحليل وسبر أغوار النفس عن مجمل الشخوص والمكان والحبكة وعن مسالة المصير والقدر وغيرها.. في حين غابت هذه التقنية لدى بقية الشخصيات ولا ينال ذلك من العمق وإن كان يقويه فهذه التقنية لها اكبر الأثر في إعطاء المتلقي مساحة لفهم طبيعة الشخوص. وهنا تكمن الصعوبة حين تتعدد زوايا السرد وتقول نانسي كريس صاحبة كتاب تقنيات الكتابة الروائية: إن أهم وسيلة تفضي لابتكار شخصيات فعالة هي تعلم كيف تكون ثلاثة في وقت واحد وهم الكاتب والخصية والقارئ تعيش جميعا أثناء الكتابة في حالات ذهنية متعاقبة وستنمو البراعة أو القدرة على تنفيذ ذلك شيئا فشيئا مع الممارسة وتقدم العمل. لقد كان عنصر الجغرافيا (المكان) واضحا ومنسجما مع طبيعة الشخوص والتطور في الأحداث وحتى في اختيار الاسماء كما ظهر ذلك في اسم وردة وجميلة ومنصور والخالة فخرية.. لا شك أن فن الرواية من أكثر الفنون السردية صعوبة والتي تستدعي قدرات بارعة في الجانب الثقافي والتربوي واللغوي والتقني. كما لا نشك أن مادة العمل الروائي كانت موفقة وثرية وناجحة في فهم وترجمة الواقع. كما وفقت كذلك في إنهاء الحث الروائي عندما فتحت الأفق مرة أخرى من خلال العاشق العائد في إشارة لإمكانية تكرار إنتاج الحقيقة برسالة نصية. (غالية اشتقت لك أتمنى أن تجدي لي موعدا وسط زحام أفكارك كي نلتقي أحتاج أن تشاطريني همومي.. أنا أب يعيش مع ابنتين في غربة بعد أن رحلت والدتهما للرفيق الأعلى منذ سبعة أشهر).

مشاركة :