الـشـائـعـات والأخـبـار الـكـاذبـة والأمــن الــقــومــي «٣»

  • 11/19/2018
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

مواجهة الشائعات والأخبار الكاذبة.. كيف؟ السؤال الذي انشغلتْ به كل الدول العالم هو: كيف يمكن مواجهة الشائعات والأخبار الكاذبة والتصدي لتأثيراتها المدمرة على الأمن القومي والسلام الاجتماعي؟.. ما الذي يجب عمله بالضبط؟ لدينا اليوم عشرات التقارير صدرت عن مراكز الأبحاث والمنظمات واللجان المعنية من مختلف دول العالم، اهتمت بتقديم إجابات عن هذه التساؤلات وطرحت توصياتها. ولدينا أيضا تجارب كثيرة لعديدٍ من دول العالم التي أخذت القضية بجدية وشكلت لجانا برلمانية، وعلى مستوى الخبراء والمختصين، وقدمت أيضا رؤاها وتوصياتها. في الدول العربية، لجأت بعض الدول أيضا إلى إجراءات واتخذت بعض الخطوات في هذا المجال، ولكن يمكن القول إن الجهد العربي مازال قاصرا إلى حدٍ كبير. لهذا من الأهمية بمكان أن تدرس الدول العربية مختلف التجارب، وما طرحته التقارير العالمية المختلفة. في هذا المقال، سنقدم عرضا مختصرا لأهم ما تم طرحه لمواجهة الظاهرة والتعامل معها وما يجب أن تفعله الدول العربية. ‭}}}‬ لا بد أن نفهم قبل أي حديث عن كيفية التعامل مع هذه الظاهرة الخطيرة ومواجهتها على أي مستوى، لا بد أن نفهم، كيف تنتشر الشائعات والأخبار الكاذبة، ولماذا يكون لها كل هذا التأثير المدمر؟. فهمُ الإجابة عن هذا السؤال عنصرٌ أساسي حاسم لأنه يحدد بعضا من العوامل النفسية بالذات التي يجب الوعي بها قبل التفكير في أي مواجهة. التقارير التي ناقشت هذه القضية، أجمعت على أن هناك أربعة عوامل كبرى تفسر هذا الانتشار وهذا التأثير هي على النحو التالي: أولا: طبيعة الذاكرة الإنسانية. المقصود هنا أن ذاكرة الإنسان هي بطبيعتها معرضة للخطأ، ولا تميز بالضرورة بين الخطأ والصواب. مخ الإنسان يحفظ المعلومات ويتذكرها بغض النظر عما إذا كانت حقيقية أو كاذبة، صحيحة أو خاطئة. وفي العصر الحالي الذي نعيش فيه، حيث أصبحت الشائعات والأخبار الكاذبة تنتشر بسرعة رهيبة وعلى نطاق واسع جدا، يصبح من الصعب أكثر وأكثر على الناس أن يميزوا بين ما هو صحيح وما هو غير صحيح. بطبيعة الحال، الإنترنت فاقمَ من هذه المشكلة كثيرا. وكما ذكرت إحدى التقارير، فإن استخدام الإنترنت ومواقع التواصل بكثافة، أدى إلى ظهور أشكالٍ وصورٍ كثيرة جدا من الضحالة والتفاهة والتزوير والكذب، وأصبح من الصعب جدا بالنسبة إلى مستخدمي الإنترنت ومواقع التواصل التمييز بين الغث والثمين. ثانيا: ما يعرف بظاهرة «الحقيقة الخادعة (أو) الحقيقة الوهمية». هذه ظاهرة درسها علماء النفس وتحدثوا عنها كثيرا. المقصود بها أن الأفراد حين يتعرضون للإشاعات والأخبار الكاذبة، ثم يتعرضون لها مرة أخرى، ويتكرر الأمر، فإنهم يميلون إلى الاعتقاد أن هذه المعلومات والأخبار صادقة وحقيقية، ذلك أنهم بسبب كثرة التكرار، لا يعود بمقدورهم أن يتذكروا المصدر الأساسي للمعلومة وهل هو مصدر ثقة أو موثوق به أم لا. ثالثا: ما يسمى بـ«عامل الأولوية». المقصود هنا أن الأفراد يميلون إلى تشكيل آرائهم وتكوين مواقفهم بناء على المعلومات التي يحصلون عليها أولا. ولا يغير من الأمر كثيرا حتى لو أن هذه المعلومات تم دحضها وتفنيدها بعد ذلك. رابعا: الانحيازات والوصول إلى المعلومات. ويعني هذا أن الأفراد الذين لديهم القدرة على الوصول أكثر إلى الشائعات والأخبار الكاذبة المتعلقة بالسياسة والساسة، ويتابعونها قبل الوصول إلى الأخبار الصادقة الحقيقية، يميلون أكثر إلى الاعتقاد بصحتها واعتبارها حقائق. أيضا، فإن الأفراد الذين لديهم انحيازات آيديولوجية مسبقة يكونون أكثر ميلا إلى تصديق الشائعات والأخبار الكاذبة. إذا تأملنا هذه الجوانب الأربعة، سندرك أنها تقدم مفاتيح لكيفية مواجهة الشائعات والأخبار الكاذبة. ‭}}}‬ حقائقٌ أساسية هناك عدد من الحقائق الأساسية أكدتها التقارير التي ناقشت كيف يمكن مواجهة إساءة استخدام أجهزة الإعلام في ترويج الشائعات والأخبار الكاذبة، والحيلولة دون أن تصبح مصدرًا لعدم الاستقرار وتقويض الأمن القومي؟ أهم هذه الحقائق هي: أولا: يجب إدراك أن الإنترنت لا يمكن التحكم فيه. قوة الإنترنت ومواقع التواصل الأساسية تكمن في الحريات المتاحة، وسرعة الانتشار، وعدم وجود سيطرة مركزية. يجب إقامة توازن دقيق بين إجراءات لحجب مواقع أو فرض أي نوعٍ من الرقابة وبين إتاحة الحريات. ثانيا: صنَّاع القرار يجب عليهم قبل كل شيء أن يعالجوا جذور الأخبار الكاذبة والشائعات، وأن يعززوا الشفافية والانفتاح. ذلك أن بناء الثقة بين الدولة والمجتمع من شأنه أن يبدد الشكوك، وسوء الفهم، وبالتالي يحد من تأثيرات الأخبار الكاذبة في الإعلام. ثالثا: الأخبار الكاذبة هي مشكلة عالمية، وهي بحاجة إلى حلول عالمية. إن كثيرا من الحكومات تقوم بسن قوانين لمواجهة الشائعات والأخبار الكاذبة. لكن لكي تنجح هذه الجهود يجب أن تتم في إطار استراتيجية عامة لبناء الثقة من منطلق فهم الظاهرة في أبعادها العامة ومسبباتها. ثالثا: هناك شروط أساسية يجب أن تتوافر في أي استراتيجية للتعامل مع الظاهرة ومواجهتها: 1 – الفهم الكامل لكل أبعاد الظاهرة بحسب ظروف كل مجتمع. بمعنى، لا بد من معرفة، ما هي الفئات المستهدفة بالشائعات والأخبار الكاذبة، وما هي الأسباب والعوامل الآيديولوجية والسياسية والاجتماعية والنفسية التي تتيح للظاهرة الانتشار. 2 – بناء أي استراتيجية لا يمكن أن تنجح إلا إذا كانت في صياغتها وتنفيذها، محصلة تعاون ومشاركة جهات شتى في الدولة، أجهزة الحكومة، وقوى المجتمع المدني المختلفة، والأكاديميين، وشركات التكنولوجيا، وعلماء الاجتماع والنفس والسياسة، وخبراء في الأخلاق. 3 – إن أي استراتجية ناجحة يجب أن تشمل، بالإضافة إلى الجوانب والإجراءات القانونية، إجراءات وقائية تعزز قدرة المجتمع على التعامل مع الظاهرة، وذلك بتعزيز مهارات التفكير النقدي، وتعزيز قدرة الأفراد على مقاومة استغلال الإعلام وأجهزة التواصل، وتهدف إلى محاربة التطرف. ومن الأمور المهمة هنا التي نبهت إليها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التوصية بالتوعية بالأخبار الكاذبة في المدارس وتعليم التلاميذ أهمية وكيفية اكتشاف هذه الأخبار. وفي المحصلة النهائية، فإن بناء الثقة وتعزيز المناعة الاجتماعية، هي العوامل الأساسية في أي استراتيجية فعالة بعيدة المدى لمواجهة الشائعات والأخبار الكاذبة. كما أن من الأمور الأساسية العمل على إقامة توازن بين حرية المعلومات وبين مقتضيات حماية الأمن القومي في إطار القانون. ‭}}}‬ وسائل المواجهة بطبيعة الحال، كل التقارير التي ناقشت الظاهرة اهتمت بطرح أفكار وتصورات واقتراحات لكيفية التعامل معها ومواجهتها. ومبدئيا، من المفهوم أن كيفية التعامل والمواجهة تختلف بالضرورة بين بلد وآخر بحسب اعتبارات كثيرة، منها مدى انتشار الظاهرة وحدود الخطر الذي تمثله على الأمن القومي وعلى سلامة مجتمعها، ومنها الظروف والأوضاع المحلية الخاصة بكل دولة، من الجوانب السياسية والمجتمعية.. وهكذا. ومع هذا، هناك اتفاق على عدد من الأساليب والوسائل العامة التي يمكن اللجوء إليها للتعامل مع الظاهرة ومواجهتها. وقد لخص تقرير «الأخبار الكاذبة والأمن القومي في عصر ما بعد الحقيقة» الذي تحدثتُ عنه في المقال السابق أهم هذه الأساليب والوسائل التي تلجأ إليها مختلف دول العالم على النحو التالي: أولا: إنشاء مواقع لمحاربة الأخبار الكاذبة. بعض الدول والجماعات المستقلة المعنية لجأت إلى هذه الآلية، إذ أنشأت مواقع إلكترونية مخصصة لمواجهة الشائعات والأخبار الكاذبة، وفضحها والرد عليها. ورغم أهمية هذه الآلية، فإنها قاصرة وتأثيرها يعتبر محدودا لأسباب كثيرة. من هذه الأسباب أن هذه المواقع ليس لها تأثيرٌ كبير على الذين لديهم انحيازات آيديولوجية وسياسية مسبقة. وهذا الأسلوب تأثيره بطيء جدا، فالأمر يتطلب أن يكون الشخص حريصا أصلا على تحري الحقيقة ومعرفة هل الأخبار صحيحة أم لا، وعلى التدقيق في هذه المسألة وبذل جهد من أجل ذلك. كما أن الأمر يتطلب أن تكون هناك ثقة أصلا في هذه المواقع المخصصة لكشف الأخبار الكاذبة ومواجهتها، وفي مصداقية الذين يقفون وراء إنشاء هذا المواقع وإدارتها. ثانيا: الاتصالات الاستراتيجية الدول الأوروبية لجأت إلى هذا الأسلوب بإنشاء وحدة للاتصالات الاستراتيجية على المستوى المحلي والإقليمي لمواجهة الشائعات والأخبار الكاذبة. في إطار الاتحاد الأوروبي مثلا، تم إنشاء ما سُمِّي «ايست ستارت كوم» بهدف رصد ومواجهة الشائعات والأخبار الروسية الموجهة إلى أوروبا. ثالثا: إجراءات تتخذها شركا التكنولوجيا الذي حدث هنا أنه تحت الضغوط المتزايدة من كثير من الحكومات، اضطرت شركات التكنولوجيا إلى اتخاذ عدة مبادرات لمواجهة تدفق الأخبار الكاذبة. من ذلك مثلا، حذف عشرات الآلاف من الحسابات المزيفة على الفيس بوك. لكن ثبت أن مثل هذه المبادرات محدودة الأثر، إذ إنها لم تستطع إبطاء تدفق وانتشار الأخبار الكاذبة. رابعا: تقليل الحوافز المالية للإعلانات. بعض شركات التكنولوجيا لجأت إلى هذا الأسلوب في محاولة للتقليل من حجم وتأثير الإعلانات ذات الطابع السياسي التي قد تتضمن أخبارا كاذبة. وعلى سبيل المثال، استأجر «فيس بوك» أكثر من ألف شخص لمراجعة الإعلانات السياسية من أجل حماية الولايات المتحدة من الأخبار الكاذبة. والفكرة في هذا الأسلوب هو تقليل حجم الأخبار الكاذبة في الإعلانات عن طريق إزالة الحوافز المالية المقدمة لها. وهذا الأسلوب يمكن استخدامه ضد الأخبار الكاذبة التي تستخدمها شركات معينة للدعاية لأغراض سياسية. غير أن الخبراء يوصون هنا بضرورة وضع مواثيق شرف أخلاقية تلتزم بها صناعة الإعلان على الإنترنت. خامسا: التشريعات الحكومية. معروف أن عديدا من حكومات العالم قامت بسن وتطبيق قوانين جديدة، أو تدرس هذه الخطوة، كإجراء أساسي لمواجهة الشائعات والأخبار الكاذبة. هذه القوانين يمكن أن تشمل مجالات مختلفة. يمكن مثلا أن تجعل شركات التكنولوجيا تتحمل المسؤولية عن نشر وتوزيع الأخبار والمعلومات الكاذبة المضللة، وعن إعلانات الإنترنت التي تنشر هذه الأخبار والمعلومات. أيضا، القوانين يمكن أن تحمِّل مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي المسؤولية عن نشر الشائعات والأخبار الكاذبة، وتعاقبهم على ذلك. ... وهكذا. لكن الدول التي تسن التشريعات والقوانين لتجريم نشر الشائعات والأخبار الكاذبة على هذا النحو، وتعاقب من يروجونها، تواجه تحديات معينة. من السهل مثلا على شركات التكنولوجيا المعنية تفادي هذه العقوبات. مثال ذلك ما حدث حين سنت ألمانيا قانونا يطلب من شركات التواصل حذف المواد التي قد تتضمن أخبارا كاذبة، واحتجت شركة «فيس بوك» بأن هذا القانون لا يتوافق مع قوانين الاتحاد الأوروبي. أيضا يواجه هذا الأسلوب عقبات ومشاكل سياسية، في مقدمتها القول بأن سن هذه القوانين يتعارض مع حريات الرأي والتعبير. سادسا: التفكير النقدي هذا من أهم الجوانب على الإطلاق التي يلح عليها كل الخبراء الذين ناقشوا القضية، وبعتبرون أنه إجراء له أهمية حاسمة في أي مواجهة بعيدة المدى لظاهرة الشائعات والأخبار الكاذبة في كل الدول. الفكرة هنا أن تنمية التفكير النقدي في المجتمع من شأنه ما يسميه بعض الخبراء «تقوية المناعة الاجتماعية» ضد الشائعات والأخبار الكاذبة، بحيث يصبح من الصعب أن ينخدع الناس، وأن تتحكم الأخبار الكاذبة في مواقفهم وآرائهم وعواطفهم. التفكير النقدي يمثل بعبارة أخرى حصانة ضد الشائعات والأخبار الكاذبة. ومن أجل تربية وتنمية هذا التفكير النقدي، يقترح كثيرٌ من الخبراء مثلا أن يتم تدريس قضية الشائعات والأخبار الكاذبة لتلاميذ المدارس منذ الصغر، وتعليمهم كيف يعرفونها وكيف يجب أن يتعاملوا معها، وأن يتم إدراج القضية في المناهج الدراسية. أيضا من أهم الجوانب التي يؤكد الخبراء أهميتها في هذا المجال، الأهمية القصوى الارتقاء بأجهزة الإعلام وبكفاءتها ومهنيتها ومصداقيتها. في الوقت نفسه، يؤكد الخبراء الأهمية الحاسمة لأن تتمتع المصادر الرسمية التي تتعامل مع القضية بالمصداقية، وأن تقدم الحقائق فعلا ـ وأن يكون لديها القدرة على الإقناع. هذه هي أهم الأساليب والآليات التي تلجأ إليها مختلف الدول للتعامل مع الشائعات والأخبار الكاذبة، ولمحاولة تحجيم تأثير الظاهرة المدمرة على الأمن القومي والسلام الاجتماعي. يبقى أن هناك عددا من الحقائق الأساسية العامة التي يؤكدها الخبراء في هذا المجال. أول هذه الحقائق، أنه بشكل عام، يجب إدراك أنه ليس هناك حل سحري واحد محدد كفيل بمواجهة الظاهرة أو القضاء عليها. ولذا بجب التفكير في كل السبل والأساليب. الأمر الثاني، أن أي جهودٍ لمواجهة الظاهرة والتعامل معها يجب أن تقوم بداية وقبل كل شيء على الفهم الواضح الكامل لكل أبعادها، يجب مثلا فهم كيف تتيح التكنولوجيا للشائعات والأخبار الكاذبة كل هذا الانتشار، ويجب الوعي بالفرق بين مختلف أنواع الشائعات والأخبار الكاذبة، والتقارير المضللة. وهكذا. والأمر المهم الثالث، أن الجهود التي تُبذل من أجل مواجهة الظاهرة يجب أن تقوم على الشراكة بين الأجهزة والمؤسسات الحكومية، والجهات غير الحكومية، ومراكز الأبحاث، وشركات التكنولوجيا.. وهكذا. ‭}}}‬ المواجهة العربية كما سبق وذكرنا، فإن الدول العربية أكثر دول العالم التي تعاني من ظاهرة الشائعات والأخبار الكاذبة وتأثيراتها المدمرة على الأمن القومي وسلامة وتماسك المجتمعات. لذلك، المفروض أن تكون أول الدول المعنية بمواجهة هذه الظاهرة الخطيرة والتصدي لها. فماذا عليها أن تفعل إذن؟ بطبيعة الحال، كل الجوانب التي أشرنا إليها وتحدثت عنها التقارير التي درست كيفية مواجهة الظاهرة، تنطبق بهذا القدر أو ذاك على الدول العربية ويجب أن تستفيد منها وتأخذ بما يناسبها. ويبقى بالطبع أن كل دولة عربية لها خصوصية معينة فيما تتعرض له من شائعات وأخبار وتقارير كاذبة، من دون أن ينفي هذا وجود قواسم مشتركة تجمع بين كل الدول العربية بهذا الخصوص. ويهمنا ونحن في معرض مواجهة الدول العربية لهذه الظاهرة أن نؤكد عددا من الجوانب التي لها أولوية خاصة. أول هذه الجوانب تتعلق بالأهمية القصوى للرصد والمتابعة. نعني أن كل دولة عربية يجب تكون لديها جهة ما تهتم بالرصد الدائم لكل ما تتعرض له من شائعات وأخبار وتقارير كاذبة، وتوثقها بكل أبعادها، ورصد مَنْ وراءها بالضبط من الدول أو الجهات، وما هي الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها تلك الدول، وما هي الأدوات التي تستخدمها.. وهكذا. هذا الرصد والمتابعة له أهمية قصوى، فهو القاعدة التي يجب أن تُبنى عليها أي استراتيجية للمواجهة. الأمر الآخر أن كل دولة عربية يجب أن تهتم بتشكيل لجنة لدراسة وبحث ما تتعرض له الدولة من شائعات وأخبار وتقارير كاذبة، وأن تحللها من كل الجوانب وتقترح الآليات والسبل والأساليب المطلوبة للتعامل معها. وهذا ما تفعله كثيرٌ من دول العالم بالفعل. هذه اللجنة، وكما أوصى كل الخبراء، يجب أن تضم مسؤولين وجهات حكومية، وجهات غير حكومية، وخبراء في مجالات التكنولوجيا وعلم النفس والسياسة والإعلام.. وهكذا. ومن أهم الجوانب التي يجب التنبه إليها، قضية نشر الوعي العام بخطورة الظاهرة على أمن الدولة وعلى سلام المجتمع. بالطبع، هذه مسؤولية أجهزة الإعلام ومؤسسات الدولة المعنية. ومن أهم التوصيات التي يجب أن تأخذ بها الدول العربية، ما أوصى به الخبراء من ضرورة إدخال دراسة الظاهرة في مناهج الدراسة وتعليم التلاميذ كيف يتعاملون معها. أيضا، كليات الإعلام في الدول العربية يجب أن تُدخِل القضية في مناهج التدريس. فمن الأهمية بمكان تربية كوادر قادرة على فهم الظاهرة والتعامل معها. ويجمع الخبراء كما ذكرنا على أن قضية تربية التفكير النقدي في المجتمع مسألة لها أهمية حاسمة. والدول العربية يجب أن تفكر فيها جديا وتعمل على ذلك. ولا يمكن تربية هذا التفكير النقدي من دون إطلاق حريات التفكير والتعبير بشكل عام، ومن دون مواجهة الأفكار المتطرفة ضيقة الأفق في كل مجال والتي تحجب هذا التفكير وتقمعه. أيضا، من أهم جوانب الشفافية، أن يسعى المسؤولون والجهات المسؤولة إلى بناء الثقة مع المواطنين، بحيث يصبح للأخبار والتقارير الرسمية مصداقية، والمبادرة بطرح الحقائق وعدم انتظار أن تنتشر الشائعات والأخبار الكاذبة ثم الرد عليها متأخرا بعد ذلك. المسألة هنا أنه لا يمكن مواجهة الظاهرة بفعالية مع وجود مسؤولين غير أكفَاء أو ليس لهم مصداقية ولا يثق الشعب فيما يقولونه. هذه وغيرها كثير من الجوانب التي يجب أن تهتم بها الدول العربية. ومن المهم هنا أن تستفيد الدول العربية من تجارب الدول الأخرى وما تفعله في هذا المجال. الدول الأوروبية شكلت لجانا كثيرة للتعامل مع الظاهرة سواء على مستوى كل دولة أو على مستوى الاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي، وأصدرت تقارير عدة في هذا الخصوص. يجب دراسة كل هذه التجارب بعناية. وفي هذا المجال، ندعو الدول العربية إلى أن تدرس بصفة خاصة تجربة سنغافورة التي تعتبر رائدة. في سنغافورة، طلبت الحكومة من البرلمان دراسة الظاهرة من كل جوانبها. البرلمان شكل لجنة برلمانية لهذا الغرض، وكلفها بدراسة ما تتعرض له البلاد من شائعات وأخبار كاذبة، وأبعادها بالضبط، ومن يقف وراءها من جهات داخلية أو خارجية، وتأثيراتها على الدولة والمجتمع، واقتراح سبل مواجهتها. اللجنة عقدت 16 اجتماعا ودعت الخبراء والجمهور العام والمنظمات إلى تقديم رؤاهم، وعقدت عدة جلسات استماع لمناقشتها. ثم أصدرت اللجنة تقريرا رئيسيا في 19 سبتمبر الماضي يقع في 317 صفحة ويتضمن خلاصة ما توصلت إليه. هذا التقرير من أهم التقارير على الإطلاق فيما يتعلق بدراسة الظاهرة، ولا يتسع المجال للأسف لعرض ما جاء به، وقد نفعل هذا في مقال آخر. الدول العربية يجب أن تدرس بعناية تجربة سنغافورة من كل جوانبها فهي أكبر تجربة يمكن الاستفادة منها. يبقى أن لدينا في الوطن العربي مؤسسات عربية جماعية كالجامعة العربية ومجلس التعاون يجب أن تهتم بدراسة الظاهرة على الصعيد العربي العام. ‭}}}‬ في كل الأحوال، الدول العربية يجب أن تتعامل مع الظاهرة على أنها خطرٌ دائم مستمر، وليست ظاهرة وقتية طارئة. ولهذا، فأي مواجهة يجب أن تكون مواجهة استراتيجية بكل ما تعنيه الكلمة.

مشاركة :