تعيش السويد راهنا أزمة سياسية عميقة غير مسبوقة، ولا تبدو في الأفق حتى الآن أي بوادر لحلها أو تجاوزها. والسبب المباشر لهذه الأزمة هو عدم تمكن أي من التحالفين التقليديين (تحالف الأحمر الاشتراكي والأخضر، والتحالف البرجوازي) من الحصول على أغلبية تخوّله تشكيل الحكومة، وذلك بموجب الانتخابات التي جرت أوائل شهر سبتمبر الماضي. هذا في حين أن اليمين المتطرف، المتمثل في حزب ديمقراطيي السويد، لم يحصل على النسبة التي كان يتطلع إليها، ولكنه مع ذلك حصل على عدد كبير من المقاعد البرلمانية؛ 62 من أصل 349، وهو منذ الآن يعدّ العدة للانتخابات القادمة، على أمل التمكن من تشكيل الحكومة مع المنحازين إليه في التحالف البرجوازي، لا سيما في حزب المحافظين والديمقراطي المسيحي، هذا إذا تمكنوا من الحصول على الأغلبية البرلمانية المطلوبة في انتخابات العام 2022. ومن الواضح أن مثل هذه الأزمة لا تعاني منها السويد وحدها، بل العديد من الدول الغربية، وهي حصيلة جملة عوامل في مقدمتها تراجع اهتمام شريحة الشباب بالعمل السياسي الحزبي لأسباب شتى، وهو العمل الذي يعتبر المحور بالنسبة إلى النظام السياسي الديمقراطي المعتمد. من جهة أخرى هناك تذمر من تصدّر مجموعة من السياسيين الذين لا يجيدون الاختصاصات التي تستوجبها مهامهم من الحزب الحاكم، أو الأحزاب الحاكمة، المشهد على المستويين الوطني والمحلي، الأمر الذي يفسح المجال أمام تعزيز سلطة الموظفين والتكنوقراط، هؤلاء الذين يركزون على حسابات الربح والخسارة أكثر من تركيزهم على القيم الإنسانية، وضرورة ترسيخ القيم الإنسانية التي تدعو إلى ضرورة أخذ تلك الحاجات بعين الاعتبار، والعمل المستمر من أجل التخفيف عن الشرائح المجتمعية الضعيفة. ويشار هنا إلى المسنين والمرضى والأطفال والأجانب الوافدين الذين لم يتمكنوا بعد، لأسباب متباينة، من الاندماج. وقد استغل اليمين المتطرف كل ذلك، وبنى خطابه الأيديولوجي على أخطاء أحزاب الحكم، متهما إياها بالتقصير والعجز عن مواجهة واقع ارتفاع مستوى الجريمة في السنوات الأخيرة قياسا إلى السنوات السابقة. فظاهرة تصفية الحسابات بين العصابات المحلية باتت تقريبا حالة شبه يومية. كما أن حالات الفساد والمحسوبية قد أصبحت من المواد الإعلامية اليومية، حتى أن الهيئة المسؤولة عن جائزة نوبل نفسها لم تكن بمنأى عن هذه الحالات وتفاعلاتها. ولكن رغم كل شيء، تبقى السويد الدولة الغربية الأكثر قدرة على تجاوز هكذا أزمة مقارنة مع الدول الأخرى، يساعدها في ذلك إعلامها المستقل ومصداقيته العالية واقتصادها القوي وإنجازاتها الكبيرة في ميدان الجهود الإنسانية، ودعمها لحقوق الشعوب والجماعات والأفراد؛ فضلا عن فاعلية منظمات المجتمع المدني المنتشرة بكثافة في جميع أنحاء البلاد. لا تقتصر النزعة اليمينية المتطرفة على السويد، بل تشمل العديد من الدول الأوروبية. ويبدو أنها قد باتت موجة على المستوى الدولي. تشمل أيضا الولايات المتحدة ودول أميركا اللاتينية. وهي نزعة تعتمد نهج دغدغة العواطف القومية، ومعاداة الأجانب. كما أنها تستغل العمليات الإرهابية التي يتبناها المتطرفون الإسلاميون هنا وهناك. وفي أجواء كهذه باتت الوحدة الأوروبية مهددة لتغدو وحدة ضعيفة هشة، غير قادرة على إلزام الدول الأعضاء بما يتم التوافق الجماعي عليه. ولعل الإخفاقات التي كانت في ميدان التعامل مع ملف الهجرة ما زالت ماثلة في الأذهان، تلك الإخفاقات التي أدت إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وسط مباركة لافتة من جانب الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي لم يخف في زيارته الأخيرة إلى باريس امتعاضه من الدعوة الفرنسية – الألمانية إلى تأسيس قوة عسكرية دفاعية أوروبية، تكون قادرة على حماية المكتسبات الأوروبية في مناخات عودة ملامح الحرب الباردة بين كل من روسيا والولايات المتحدة، والتخوف من تحول أوروبا مجددا إلى ساحة منافسة، وربما صراع، لا سيما بعد ما حصل في أوكرانيا، والنفور الروسي من التغلغل الأميركي في دول أوروبا الشرقية. ولكن السؤال الذي يفرض ذاته هنا هو: هل سيتمكّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي يعاني ضغوطا شديدة من جانب القوى السياسية الفرنسية التقليدية من تجسيد الحلم الأوروبي مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي أعلنت نتيجة الضغوطات التزامها بترك زعامة الحزب في الانتخابات القادمة؟ هل سيتمكن الاثنان من إنجاز ما عجز عنه الزعماء الأوروبيون التاريخيون في أيام قوة أوروبا أم أنها المصالح والحسابات الأوروبية الاستراتيجية التي ستحدد ذلك؟ أوروبا اليوم موزعة بين ما هو عاطفي شعبوي قوموي، وبين ما هو عقلاني واقعي إنساني. هل ستتمكن أوروبا من استعادة زمام المبادرة، وقطع الطريق أمام النزعات المغامرة التي تنذر بموجة جديدة من العنصرية، وربما العنف والكوارث؟ هذا هو التحدي الذي تواجهه أوروبا المتوجسة من الاندفاع الروسي، ولا تبني كثيرا على مزاجية الحليف الأميركي.
مشاركة :