تنتشر في شوارع القاهرة لوحات إعلانية لمنازل فخمة ومنتجعات فاخرة وأماكن ذات مناظر خلابة في مجمعات تحمل أسماء مثل “لا فيردي” أو “فينشي”. توجد هذه المجمعات في قلب العاصمة الإدارية الجديدة التي لا تزال قيد الإنشاء في الصحراء، على بعد أميال من القاهرة التاريخية الواقعة على النيل، والتي كانت مقر السلطة لأكثر من 1000 عام، والتي جمعت أحياؤها المصريين بمختلف طبقاتهم الاجتماعية، لكن العاصمة الجديدة تشي بفصل مجتمعي واضح حيث يصعب من خلال ما يتردد عن أسعار المنازل وطبيعة الحياة هناك بأنها ستكون عاصمة لكل المصريين. القاهرة – يحتدم النقاش عند فتح ملف حول العاصمة الإدارية الجديدة التي تشيدها مصر في شرق القاهرة، ويصفها قطاع كبير من المواطنين بأنها عاصمة الأثرياء، ويمعن كثيرون في التحليل ورصد البراهين على أنها تمثل إهدارا لثروات البلاد ونموذجا لفقدان النظام الحالي لبوصلة أولويات التنمية. ويذهب معسكر آخر إلى أن القاهرة بهيكليتها الحالية وتكدسها بأكثر من 20 مليون مواطن باتت عاجزة عن مواكبة تطورات الحياة المدنية في معظم مدن العالم، والتي يتحول أغلبها إلى مدن ذكية، ولا يمكن لمصر أن تتخلف عن هذا التوجّه. ويسلط حمزة هنداوي، في تقرير نشرته صحيفة سيانس مونيتور، الضوء على هذه العاصمة الجديدة التي لا يبدو أنها تسعى إلى التخفيف عن قاهرة المعز بقدر ما ستعمق أزمة طبقية مستفحلة في مصر وستقسم المجتمع أكثر بين قاهرة غنية وأخرى فقيرة. ويقول هنداوي “في حين أنها مدينة قوامها نحو 20 مليون نسمة وتجمع بين السحر والبؤس، فقد تشهد القاهرة في وقت قريب هجرة جماعية من قبل سكانها الأثرياء والموظفين الحكوميين والسفارات الأجنبية إلى العاصمة الإدارية الجديدة، المشروع الضخم الأشهر الذي يتم بناؤه في الصحراء. وستكون هذه المرحلة الأخيرة في رحلة الأثرياء، الذين انتقل العديد منهم بالفعل إلى العيش في مجمعات بضواحي جديدة، تاركين القاهرة القديمة في حالة من الإهمال والانحلال”. 6.5 ملايين مواطن، طاقة استيعاب العاصمة الإدارية الجديدة على أقصى تقدير ورغم أن المدينة أصبحت واقعا بالفعل، غير أن فئات عديدة في المجتمع المصري لا تستطيع حتى الآن استيعاب فكرة الانتقال إلى العاصمة الإدارية الجديدة، والتي لم يطلق عليها اسم محدد حتى الآن، ويشار إليها باسم «القاهرة الجديدة». أعلن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي عن تدشين هذه العاصمة خلال مؤتمر مصر الاقتصادي في مارس 2015 على مساحة 170 ألف فدان. وتقع على بعد 45 كيلومترا من القاهرة القديمة. ربط السيسي بين إنشاء العاصمة وتخفيف الضغط على القاهرة وتوفير الأمان للمسؤولين وضيوفهم، لكن المؤشرات الحالية لعملية البناء توحي بأن الفضاء الذي يتم تشييده يشبه فضاء مجتمع حضاري يحاول أن يكون منغلقا على نفسه ولن يجذب إلا طبقة الميسورين. ضرورة ولكن.. رغم ما يثار من جدل، إلا أن مصر في حاجة إلى الخروج من القاهرة، حيث ازدحام الشوارع الذي يزداد يوما بعد يوم، وبات من المستحيل أن تتعايش مقرات الوزارات، وما يصاحبها من تعزيزات أمنية وسط شوارع لا تزيد عرضها عن عشرة أمتار وربما أقل. لن تستطيع العاصمة الجديدة سحب البساط من القاهرة القديمة المعروفة بأنها “بنت المعز” فالمدينة الجديدة صممت لتستوعب نحو 6.5 ملايين مواطن على أقصى تقدير، كما أن الوزارات التي سوف تنتقل إليها لن تنقل بالكامل، بل سيتم نقل عدد من المكاتب الفنية. ووضعت الحكومة حزمة من الشروط لنقل الموظفين، منها ألا يزيد عمر الموظف أو الموظفة عن 45 عاما، فضلا عن إجادة اللغة الإنكليزية، والمهارات التي تمكن العاملين من التعامل مع التكنولوجيات الحديثة، لأن كافة المرافق في المشروع صممت وفق مفهوم المدن الذكية. ورغم نفي رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي أن المدينة الجديدة ستجذب فقط الأثرياء وأصحاب الثروات، قائلا إنها “لكل المصريين”، إلا أن الأسعار تشي بعكس ذلك. الميسورون فقط بوسعهم الهروب من ضغط القاهرة إلى العاصمة الجديدةالميسورون فقط بوسعهم الهروب من ضغط القاهرة إلى العاصمة الجديدة وتصل تكلفة أصغر شقة هناك -1291 قدما مربعا- إلى 1.3 مليون جنيه مصري (أي 73 ألف دولار أميركي)، وهو مبلغ بعيد عن متناول الموظف الذي يعيش في مستوى متوسط، والذي قد يعادل دخله حوالي 4800 دولار أميركي سنويا. قال المحلل السياسي حسن نافعة، وهو على يسار السلطة ومعارض للنظام، إن “هناك خطأ كبيرا في ترتيب الأولويات ربما يريد السيسي أن يذكره التاريخ بوصفه الزعيم الذي بنى العاصمة الجديدة، لكن إذا لم ير المصريون تحسنا في ظروف معيشتهم وخدماتهم، فسيتم تذكره كرئيس دمر ما تبقى من رأس مال الطبقة المتوسطة”. وتقول الحكومة إن مدينة القاهرة ممتلئة الآن إلى حد الانفجار، ومن المتوقع أن يصل عدد سكانها إلى 40 مليونا بحلول عام 2050. وهاجم المشروعَ أيضا من هم على يمين السلطة والمؤيدون للنظام ومنهم الاقتصادي المصري هاني توفيق الذي قال لـ”العرب” “تنفيذ العاصمة الإدارية بدأ خلال فترة اقتصادية صعبة تعيشها مصر، وهذا المشروع يمثل إهدارا للموارد، ويعكس غياب رؤية واضحة للأولويات”. ثلاث محاولات فكرة نقل العاصمة ليست جديدة على الساحة المصرية، حيث بدأت مناوشات النقل مع نهاية عقد الخمسينات، عندما أصدر الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر، توجيها رئاسيا بإنشاء مدينة نصر (شمال شرق القاهرة) لتكون عاصمة جديدة لمصر، إلا أن حلمه لم يكتمل. وترجع الفكرة إلى المهندس المصري سيد كريم عام 1953 عندما راوده حلم الخروج من زحام القاهرة إلى براح الصحراء فتقدم باقتراح للحكومة في السنة ذاتها لإنشاء عاصمة جديدة، إلا أن الفكرة رفضت، وقيل إنها تتعارض مع قيم الاشتراكية. وتمكن كريم من عرض الفكرة على الضابط أنور السادات وقتها فأعجب بها، وواصل جهوده لإيصال فكرته إلى الجميع حتى عرضها على الرئيس عبدالناصر الذي اقترح عليه أن يقدم المشروع كعاصمة جديدة بمقارّ حكومية وملعب رياضي وقاعة للمؤتمرات. ومع بطء العمل فشل المشروع، وانتهى بوفاة عبدالناصر عام 1970، وأصبحت مدينة نصر ضاحية من ضواحي القاهرة. وفي عهد الرئيس أنور السادات عادت فكرة نقل العاصمة مجددا، لكن هذه المرة كان الاتجاه شمالا، حيث وقع الاختيار على مدينة السادات التابعة لمحافظة المنوفية، والتي ولد فيها السادات وتقع على بعد 93 كيلومترا شمال القاهرة وفي اتجاه مدينة الإسكندرية. فئات عديدة في المجتمع المصري لا تستطيع حتى الآن استيعاب فكرة الانتقال إلى العاصمة الإدارية الجديدة، والتي لم يطلق عليها اسم محدد حتى الآن، ويشار إليها باسم "القاهرة الجديدة" وتعد المدينة من الجيل الأول للمدن، وكان الهدف من إنشائها أن تكون مقرا لجميع الوزارات والهيئات الحكومية، وصدر قرار تشييدها عام 1976، وفشل المشروع بسبب صعوبات النقل والمواصلات مع رفض الموظفين الانتقال إلى العاصمة الجديدة، وماتت الفكرة بوفاة السادات عام 1981 بعد أن تم بناء عدد كبير من المقرات للوزارات والهيئات الحكومية. ظلت هذه المباني تسكنها الأشباح حتى انتهى الأمر إلى تأسيس جامعة في المدينة وتحويل مباني الهيئات الحكومية إليها، للاستفادة منها. وألغى الرئيس السابق حسني مبارك في عام 2007 فكرة إنشاء عاصمة جديدة لمصر. وركز مبارك على بناء مدن جديدة تجمع الأثرياء بعيدا عن الدخول في معارك لنقل العاصمة، وتم اختيار التجمع الخامس في شرق القاهرة ليكون مقرا لأصحاب الأموال، رغم أن خطأ اختيار تلك المنطقة كلف موازنة البلاد أموالا طائلة، لأنها تقع على مرتفع وبالتالي تحتاج إلى أنظمة مكلفة ومحطات رفع للمياه وللصرف الصحي. وقال حسين صبور، وهو شيخ المعماريين المصريين، إن فكرة تعمير منطقة التجمع تمت بالمصادفة، حيث كانت الحكومة في ذلك الوقت ترى أن فقراء مصر يقطنون منطقة مصر القديمة بمساكنها العشوائية التي تطل على النيل، وهناك أغنياء قادرون على إعادة بناء أبراج شاهقة على أنقاض هذه العشوائيات. وأضاف لـ”العرب”، كان من المخطط نقل سكان هذه المنطقة المطلة على النيل بعد التعويض لهم، إلى مناطق التجمع الثالث والخامس في شرق القاهرة، لكن مع صعوبات التفاوض، وقد تزامن معها إقبال الأثرياء على شراء الأراضي في منطقة التجمع غضت الحكومة الطرف عن فكرة بناء أبراج للأغنياء على نيل مصر القديمة. وأوضح صبور أنه قام بالانتهاء من تخطيط وتصميم التجمع الثالث، وفوجئ بالحكومة تطالبه بسرعة الانتهاء من التجمع الخامس أيضا، بعد الإقبال الكبير على شراء الأراضي، وتحول التجمع إلى مقر جديد للأثرياء. قلق الموظفين يخشى البعض من المراقبين أن يكون مصير العاصمة التي يبنيها السيسي، شبيها بمصير المحاولات الثلاث السابقة، مع فارق أن المحاولة الأخيرة يجري الإنفاق عليها بسخاء. ويري فتح الله فوزي، رئيس لجنة التشييد بجمعية رجال الأعمال المصريين، أن البلاد في حاجة ماسة إلى عاصمة جديدة تحاكي المدن الكبرى، مثلما هو الحال بالمنطقة العربية، فمثلا نجد مدينة مثل دبي نموذجا معماريا للحداثة في الثورة المعمارية. وأشار لـ”العرب” إلى أن محاكاة التطور العمراني يحتاج إلى بناء مدن على أرض جديدة، ولا يمكن أن يتم ذلك في نموذج مثل القاهرة بزحامها، وعشوائية البناء التي شهدتها خلال المئة عام الماضية. مخاوف من تقسيم المجتمع بين قاهرة غنية وأخرى فقيرةمخاوف من تقسيم المجتمع بين قاهرة غنية وأخرى فقيرة وتجلب الفكرة، بما تحمله من إغراءات سكنية وأمنية ووظيفية واجتماعية، اهتمام الكثير من المصريين، الذين يحلمون بالعيش بعيدا عن القاهرة وزحامها، لكن تحقيق الحلم لن يكون في متناول الجميع. وتعبر عن هذا الواقع إيمان محمد، موظفة بوزارة التخطيط، حيث قالت لـ”العرب”، إنها بدأت رحلة البحث عن سكن بالعاصمة الإدارية، بدلا من سكنها الحالي بحدائق القبة التي ستكون ببعيدة عن مقر عملها. ولفتت إلى أن أسعار الوحدات السكنية بالعاصمة الإدارية مرتفعة جدا، ويصل سعر الشقة ذات مساحة 70 مترا إلى نحو مليون جنيه، أي ما يعادل نحو 57 ألف دولار، وهو ما يجعل العاصمة الجديدة مقرا أو مجتمعا للأغنياء فقط. ويدفع الفرق بين الحلم والواقع إيمان شأنها شأن الأغلبية إلى القول إن “الحكومة تريد أن تنشئ مدينة على مقاس الأثرياء، وتشكل طبقة تستطيع التعايش مع الغلاء، ما يعني أن البسطاء لن يكون لهم مكان في العاصمة الجديدة”. لا يخفي أحمد زكي عابدين، رئيس مجلس إدارة شركة العاصمة الإدارية الجديدة، أن المشروع في جزء منه هو “مدينة الأغنياء”. وقال في تصريحات لـ”العرب” إن “المرحلة الأولى من تنفيذ المشروع للطبقة الميسورة والمستثمرين فقط”، ويبرر ذلك بأن الرئيس أكد عدم تحمل ميزانية الدولة لأي أموال لبناء العاصمة الإدارية، لذلك فإن أسعار الأراضي مرتفعة، وتتم إعادة تقييمها كل ثلاثة أشهر. وأكد عابدين أن معدلات الطلب على شراء الأراضي في ارتفاع مستمر، كاشفا عن واقعة لأحد المستثمرين الذين قاموا بشراء 200 فدان، ثم قام ببيعها للمواطنين بأكثر من 12 ألف جنيه للمتر (700 دولار)، قبل أن يصدر له قرار وزاري برخصة بناء على هذه الأراضي، وتقدم نفس المستثمر لشراء 200 فدان أخرى وتم تخصيصها على الفور له رغم تلك المخالفة.
مشاركة :