محمد حماد في الصحيحين عن أبي مرة، مولى عقيل بن أبي طالب نقلاً عن أبي واقد الليثي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالسٌ في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحدٌ، قال: فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما أحدهما فرأى فرجةً في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث: فأدبر ذاهبًا، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه».أما الأول فقد دخل مجلس ذكر الله تعالى، في حضور رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجمع أوليائه، وانضم إليه، مريداً القرب منهم فقربه الله وآواه إليهم وجعل عاقبته عاقبتهم وكتب له الجنة، وأما الثاني فقد ترك المزاحمة والتخطي حياء من الله تعالى، ومن النبي صلى الله عليه وسلم والحاضرين، أو استحياء منهم أن يعرض ذاهبا كما فعل الثالث، فاستحى الله منه أي رحمه ولم يعذبه، بل غفر ذنوبه، وقيل: جازاه بالثواب. قالوا: ولم يلحقه بدرجة صاحبه الأول في الفضيلة الذي آواه وبسط له اللطف وقربه، وأما الثالث الذي أعرض فأعرض الله عنه أي لم يرحمه، وقيل: سخط عليه، وهذا محمول على أنه ذهب معرضا لا لعذر وضرورة. دعوة إلى الفضائل هكذا هو الإسلام دعوة إلى الأخلاق الحميدة وإلى كل الفضائل، وعلى رأسها خلق الحياء، ذلك الذي يحث على ترك القبيح من القول والفعل، ويمنع من التقصير في حق صاحب الحق، ويدعو صاحبه للبعد عن الرذائل، ويحول بين صاحبه وبين فعل المحرمات وإتيان المنكرات ويصونه من الوقوع في الأوزار والآثام، ولذلك فهو خلق أنبياء الله وإمامهم محمد فقد كان صلى الله عليه وسلم (أشد حياء من العذراء في خدرها)، والمؤمن يتصف بالحياء تأسياً بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي ضرب بأقواله وأفعاله المثل الأعلى في الحياء، ويكفي قول الصحابي الجليل أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وهو يصف الرسول الكريم فيقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه)، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خمس من سنن المرسلين: الحياء والحلم والحجامة والتعطر والنكاح).الحياء هو رأس مكارم الأخلاق، وزينة الإيمان، وشعار الإسلام، كما في الحديث: (إن لكل دين خلقًا، وخلق الإسلام الحياء)، ولم يعده النبي صلى الله عليه وسلم جزءا من الإيمان فحسب وإنما عده الدين كله، فحين قال الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الحياء من الدين) قال صلى الله عليه وسلم: (بل هو الدين كله). والحياء من الأخلاق التي يحبها الله، قال الرسول صلى الله عليه وسلم (إن الله حيي ستير يحب الستر والحياء)، والحياء كله خير كما جاء في السنة النبوية المشرفة فعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحياء لا يأتي إلا بخير)، وقال: (الحياء كله خير)، وهو من الوسائل التي توصل الإنسان إلى الجنة، كما أن عدم التحلي به من الأمور المؤدية إلى النار، فقد روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر على رجل وهو يعظ أخاه في الحياء فقال رسول الله: (دعه فإن الحياء من الإيمان)، وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، وفي الحديث أيضا: (الحياء والإيمان قرنا جميعًا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر). فطري.. ومكتسب والحياء منه ما هو فطري، وهو من أعظم النعم التي يجود بها الباري على من يشاء من عباده، فنرى كثيراً من الناس يكفون عن القبائح والمعاصي، وقد لا يكون ذلك تديناً، قال بعضهم: «رأيت المعاصي نذالة فتركتها مروءة، فاستحالت ديانة»، ومنه ما هو مكتسب يكسبه المرء من معرفة الله والتعرف على صفاته العظيمة الجليلة، ومن اليقين بأنه سبحانه رقيب على عباده، وأنه عز وجل لا تخفى عليه خافية، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهذا الحياء المكتسب من معرفة الله هو من خصال الإيمان، فإذا سلب العبد الحياء الفطري ولم يقدر على اكتسابه، لم يبق له ما يمنعه من الوقوع في القبائح والمعاصي، ويصبح العبد شيطاناً يمشي على الأرض. وأفضل الحياء ذلك الذي يكون من الله، حيث يستقر في قلب العبد أن الله يراه، وأنه سبحانه معه في كل حين، فإنه يستحي من أن يراه الله مقصرًا في فريضة، أو أن يراه مرتكبًا لمعصية، قال عز وجل: (ألم يعلم بأن الله يرى)، وقال: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)، وكثير من الآيات يدل على اطلاعه سبحانه على أحوال عباده، وأنه رقيب عليهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (استحيوا من الله حق الحياء. فقالوا: يا رسول الله إنا نستحي، قال: ليس ذاكم، ولكن من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء).ثم يأتي الحياء من الملائكة، هؤلاء الذين لا يفارقوننا، فحقهم أن نستحي منهم وأن نكرمهم وأن نجلهم عن أن يروا منا ما نستحي أن يرانا عليه من هم مثلنا، لأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، فإذا كان ابن آدم يتأذى ممن يفجر ويعصي بين يديه، وإن كان يعمل مثل عمله، فما الظن بإيذاء الملائكة الكرام الكاتبين؟وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الحياء من الناس حكمًا على أفعال المرء وجعله ضابطًا وميزانًا، فقال: (ما كرهت أن يراه الناس فلا تفعله إذا خلوت) وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (لا خير فيمن لا يستحي من الناس)، وقال مجاهد: (لو أن المسلم لم يصب من أخيه إلا أن حياءه منه يمنعه من المعاصي لكفاه)، ولا شك في أن من استحيا من الناس ولم يستح من نفسه، فنفسه أخس عنده من غيره، فإذا كبرت عند العبد نفسه فسيكون استحياؤه منها أعظم من استحيائه من غيره، وإذا رأيت في الناس جرأةً وبذاءةً وفحشًا، فاعلم أن من أعظم أسبابه فقدان الحياء، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت). فهم مغلوط ولا بد أن ندرك أنه ليس من الحياء امتناع البعض عن فعل الخير وعن قول الحق وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بزعم الحياء، فهذا فهمٌ مغلوط لمعنى الحياء، فخير البشر محمد صلى الله عليه وسلم كان أشد الناس حياءً، ولم يمنعه حياؤه عن قول الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل والغضب لله إذا انتهكت محارمه، كما لم يمنع الحياء من طلب العلم والسؤال عن مسائل الدين، كما رأينا أم سليم الأنصارية رضي الله عنها تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله! إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المرأة غسلٌ إذا احتلمت؟»، لم يمنعها الحياء من السؤال، ولم يمنع الحياء الرسول صلى الله عليه وسلم من البيان، فقال: (نعم، إذا رأت الماء).قال القاضي عياض وغيره: (والحياء الذي ينشأ عنه الإخلال بالحقوق ليس حياءً شرعياً بل هو عجز ومهانة، وإنما يطلق عليه حياء لمشابهته للحياء الشرعي).
مشاركة :