المراجعات النقدية التي يقوم بها المفكرون والمثقفون في العالم؛ دليل على صحة فكرهم وبيئتهم الثقافية وقدرتهما على العطاء المتجدد، وعندما يحدث أن تتوقف تلك العمليات التصحيحية فهو مؤشر لتكلس الثقافة وجمودها المنعكس سلباً على المجال الاجتماعي العام. والمتأمل في أعظم المشاريع الفكرية المؤثرة في الفرد والمجتمع عبر التاريخ، يجد أن أكثرها تم إنجازه بدوافع المراجعة والنقد التي يحملها العالم أو الفقيه أو الفيلسوف نحو تصحيح فكرة أو مناقشة قضية علمية أو نقد ممارسة واقعية، فـ (رسالة) الإمام الشافعي في أصول الفقه كانت نقدا ومراجعة لأصول الاستدلال والإفتاء التي أثمرت خلافا وقطيعة بين مدرستي أهل الرأي وأهل الحديث في القرن الثاني الهجري، فكان عمله ريادياً ومرجعياً لكل من اشتغل بالاجتهاد وأصول الفقه، ومن الأمثلة أيضاً؛ كتاب الإمام الشاطبي (الموافقات) الذي حاول فيه تقديم حلولا علمية لمشكلة التعارض بين المدارس الفقهية وجمعها على أصول كلية معتبرة؛ فأثمرت تلك المراجعة عن أعظم مشروع تأصيلي لمقاصد الشريعة، وكذا فعل ابن تيمية في (درء تعارض العقل والنقل) كمراجعة شاملة لقوانين الاستدلال العقلي الذي أخذ بها الفلاسفة وبعض المتكلمين لتأويل معاني القرآن والسنة خلاف منهج السلف في النظر، ولا أظن أن الأعمال الفكرية العظيمة لديكارت وجون لوك وسبينوزا وكانط وهيجل وهوسرل وبوبر وغيرهم إلا محاولات للنقد والمراجعة وإعادة النظر في القضايا الشائكة لعقود أو قرون من الزمن حول دور العقل ومركزية الإنسان والدين وفلسفة العلم والتاريخ والسلطة، هذا السباق الفكري هو من نوع سباق التتابع في الجري نحو الحقيقة وتنزيلاتها في الواقع، وكل عالم يحمل عصا المسابقة ليُكمل اللاحق ما بدأه السابق في مشوارهم نحو خط النهاية، وعند توقف أحد اللاعبين أو عدم وجود من يكمل السباق؛ تقف عجلة العلم عن المواصلة وترتد نحو التراجع؛ وربما التخلف نتيجة هذا الانقطاع. أمام هذا الموضوع الهام أقدم بعض الرؤى حول تطوير فكرة المراجعة والنقد لتؤتي أُكلها المنتظر، من خلال المسائل الآتية: أولاً: إن المراجعة الفكرية التي يقوم بها المفكرون حيال الأفكار السابقة أو القضايا المتعلقة بظروف زمن أو حال أو مكان، ثم زالت تلك الظروف أو تغيرت، هو شأن المبدعين أهل الإصلاح والتجديد، وحتى ما يقوم به العالم من مراجعة أفكاره وفتاواه وآرائه تعتبر من الفعل العلمي الطبيعي، وهي أيضاً من الشجاعة الفكرية لهذا المثقف أو العالم أو الفقيه، ويمكن اعتبارها أيضاً من دلائل الإخلاص للحقيقة والمعرفة، وهو ما ينبغي الاحتفاء به، دون الاكتراث لغوغائية الشارع والجمهور الذين يعتبرون تغير المواقف دائماً يكون انتكاساً عن الحق وخضوعاً للباطل، وهذا الاحتمال قد يرد عندما يكون التغير أو التحول عن الرأي والموقف مفاجئاً؛ أو لغرض دنيوي أو سقوطاً في وحل الإغراء والترهيب، وقد يُعذر صاحبه أو لا يعذر حسب حالته والضرورة التي وقع فيها، ولكن المهم في هذا السياق أن التحول الفكري لا ينبغي أن يكون صامتاً دون توضيح وتعريف؛ خصوصاً ممن يشار لهم ببنان العلم والاقتداء، وأياً كان الموقف الذي تم التراجع عنه؛ فإن كشف الحساب والمراجعة مع الأفكار الماضية وتقديم الآراء النقدية والمخارج الصحيحة للأزمات؛ هو المغنم الحقيقي لدوران عجلة التطور والنمو المعرفي في المجتمع. ثانياً: المراجعة المنشودة هي التي تثمر حراكاً فكرياً ابداعياً، وتغوص في عمق الأفكار وتفكّك الالتباس عن الحقيقة، وتظهر الفوارق بين الحال قبل المراجعة وبعدها، إما لو كانت المراجعة في دوائر مغلقة، أو قاصرة على ممارسات ظاهرية معينة، كأن يكون الموقف السابق متشدداً ثم يتحوّل للإباحة المطلقة، أو كان غارقاً في كراهية الآخر ثم أصبح في يوم وليلة متسامحاً بلطف شديد، فهذا الحال لا يدخل في المراجعة المنشودة التي تثمر رؤية معرفية وتصحيحية لأخطاء سابقة يتعلم منها المجتمع طرق الوصول للصواب؛ بل هي مواقف شخصية مرجعها قد يكون مصلحياً أو في سياق الموقف الأخلاقي للمتراجع. كما أن هناك أمرا يقتضي التنبيه؛ والمتعلق بالمراجعة التي تمليها السجون والمعتقلات أو الغربة النفسية الشديدة التي قد تحمل المتراجع للنقيض أحياناً أو المعالجة العكسية، فلا يتم حينئذ تناول الإشكالات والمغالطات في مناخ صحي ملائم، وقد تعود بهم للمراوحة في الغلط ذاته، ولكن بوجه مختلف عن السابق. ثالثاً: المراجعة الفكرية الشاملة أنجع أثراً وتأثيراً من المراجعة الجزئية، وهذا لا يخص المجال الفكري فحسب؛ بل حتى السياسي والاقتصادي أحوج لهذه الرؤية الشمولية للمراجعة والنقد، فالتداخل المعرفي والاجتماعي بات شأناً مشتركاً في كافة المجالات ولا ينفك عنهما أي مشروع للمراجعة أو الإصلاح، فمن يروم مراجعة شاملة للنظم والتشريعات المدنية على سبيل المثال، عليه أن يراعي حال المجتمع والسوق واستعداد السلطات السياسية والقضائية للتعامل مع هذا الوضع الجديد، وكذا الأمر في الشأن الاقتصادي الذي اصبح لا يتقدم ويتطور بشكل صحيح إلا ومعه اقتصاد المعرفة، المبني على المعلومات الرقمية والتقنية والاهتمام بالتعليم وتهيئة المجتمع لذلك النمو المختلف عن السابق، فالمعرفة وعلم الاجتماع ومرونة القوانين، مبادئ رئيسة لا يمكن تجاهلها في الصناعة الاقتصادية، وإلا كانت شكلاً من البناء الذي لا يصلح للسكن، والمستشفى الذي لا يداوي المرضى، والمسجد الذي لا يصلي به أحد. ويبقى التعليم هو المرجع والركن الأساس في أي عملية تنموية شاملة ومستديمة، وواقع الأمم المتقدمة يؤكد ذلك ويثبته. رابعاً: أتساءل أحياناً عن دور الجامعات والمراكز البحثية في التشجيع على المراجعة وتحفيز النقد العلمي المطوّر للأفكار والممارسات الماضية؟ ولماذا غابت مشاريع النقد الفكري عن عصرنا الحاضر أو ماتت مع رموزها دون انبعاث أو استمرار؟!، مثل ما قدّمه محمد عبده وعلي عبدالرازق والترابي والجابري وأركون وغيرهم، فالمراجعات التي قدّموها للفكر العربي والإسلامي أدت على حراك إيجابي في وقتهم؛ وطرحوا خلالها سؤالاتهم عن التراث والحداثة أو الاحتكام للعقل أو الدين، بينما نجد في عصرنا الحاضر محاولات محدودة (باستثناء مشاريع طه عبدالرحمن ورضوان السيد) لا ترتقي من وجهة نظري كمشاريع للمراجعة والنقد المعرفي، إما بسبب خلل في أدوات النقد ومبالغة مسرفة في المحو ونسف كل الجهود، وإما بسبب ضعف الدعم والتشجيع الرسمي الذي لا يهتم وربما يرتعب من محاولات المراجعة خارج أطره السياسية والأيديولوجية، لذلك يشعر الكثير من المهتمين بالشأن المعرفي العربي وجود حالة تصلب في شرايين الفكر وأحياناً جلطات دماغية تصيب المجتمع المعرفي بالشلل والعجز. فمثلما أنتجت جامعات برلين وباريس واكسفورد وهارفارد الكثير من المشاريع الفكرية النقدية؛ أنجبت معها بالتوازي؛ مدرسة فرانكفورت الفلسفية الشهيرة، ومدرسة باريس الوجودية مع سارتر، ومدرسة أكسفورد وغيرها، ولست بصدد تقويم تلك المشاريع فليس هذا مقامه؛ بل الهدف هو معرفة مكامن الحراك الفكري في المجتمعات، ما يعني أن الجامعات العلمية اليوم ليس مقامها الحقيقي هو في عدد طلابها أو ما نشرته من بحوث تقليدية أو أن تتباهى بموقعها في التصنيفات الدولية، بل مقامها المنشود يكمن في مدى تقديم المعرفة الإنسانية، ومعالجة إشكالاتنا المجتمعية المتعددة، ورسم خارطة طريق لتطوير الدولة قيمياً ومعرفياً. وعندما تفقد الجامعات هذه المضامين أو لا تهتم بها فكأنما تجرّد المجتمع من عيونه المبصرة، وفي عماء الظُلمة لا يهم أين يكون موقعك وإلى أين تكون وجهتك؟!. خامساً: ظهرت في أواخر الثمانينات مراجعات عميقة وجذرية لدى اليسار العربي، فردية ومؤسساتية لنقد التجربة الاشتراكية، ساهمت في تخفيف الكثير من البواعث الثورية والإلحادية في وطننا العربي، ثم جاءت موجة المراجعات الفكرية التي قامت بها عدد من الجماعات الجهادية خلال التسعينيات، أبرزها الجماعة الإسلامية المصرية 1997م، ثم الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة 2007م، وتم نشرها وتداولها للتعريف بهذه الخطوة الهامة نحو الرشد والاعتدال، وقد ساهمت تلك المراجعات في تخفيف العنف والتكفير وعودة السلم الأهلي نسبياً لهذه المجتمعات في تلك الفترة، ولا تزال هناك موجة منتَظرة ومتردّدة للقيام بمراجعة شاملة؛ وأقصد بها مراجعات ما يعرف اليوم بجماعات الإسلام السياسي، فمنذ ثورات الربيع العربي 2011م، والمشهد الإسلامي تعتريه الكثير من المتغيرات الكبرى ولم نسمع عن وجود مراجعات فكرية شاملة، ولا يزال النقد الفكري للحالة الإسلامية يُمارس من قبل الأفراد وعلى استحياء، دون أن تشارك تلك المؤسسات في هذا العمل تأصيلاً ونقداً، هذا التأخر في مراجعة مواقف تلك الجماعات في مصر والشام وفلسطين والمغرب العربي يثير الكثير من التساؤلات، فهي إما راضية عما مضى من ممارسات وأفكار، وهذه مشكلة معرفية وأخلاقية، وإما أنها تريد المراجعة ولكن ظروف السجون والملاحقات تمنعها من ذلك، وهذا الأمر له وجاهة لعدم توفر المناخ المناسب للمراجعة، ولكن من زاوية أخرى لم تمنع تلك الظروف الجماعة الإسلامية من نقد نفسها ومواجهة تيارها العام بقناعات مؤصلة لا تزال قطاعات كبيرة من تلك الجماعة تؤمن بها حتى بعد خروجهم من السجون، وإما أن يكون المانع من النقد والمراجعة ؛ رفض توجيه اللوم لأشخاص موجودين في السجون، والانتظار حتى يخرجوا ويعلنوا مواقفهم، وهذه الحالة قد تتلاءم مع أشخاص عليهم تهم خاصة أو تسببوا في وقوع جماعاتهم في إشكالات جنائية، لكن هذا ليس مجالنا الذي نتحدث فيه، إذ المقصود هو أن تعلن تلك الجماعات كمؤسسة دعوية من خلال الموجودين خارج السجون أو من غيرهم في المهجر من معاودة النظر والمراجعة في الكثير من الأخطاء وكسر الجمود على أساليب تجاوزتها الظروف المعاصرة، وغالب تيارات الإسلام السياسي في إطاره السني يحتاجون إلى مراجعات جذرية ذات بُعد شرعي وفكري وسياسي لكثير من المسائل التي ظهرت بشكل جلي خلال نزوات الربيع العربي، منها على سبيل المثال: موقفهم من فكرة التنظيم الذي أقصاهم من المجتمع نحو أوهام الاصطفاء الخاص، وعدم إدراك أبعاد المؤامرات الأممية التي تحاك سراً وعلناً لاستغلالهم في مشاريع فوضى أجنبية، وأيضاً اندفاعهم العاطفي والمثالي أحياناً لتقمص شخصيات تاريخية دون معرفة أبعاد ومآلات تلك التصرفات، بالإضافة إلى موقفهم البراغماتي من الديموقراطية السياسية دون بيان الموقف الشرعي لهذه التقلبات المريبة في القضايا الخارجية والغائبة عن هياكلهم الداخلية، كما لا يغيب أيضاً أن هناك إشكالات مزمنة حول مفاهيم متعلقة بموقفهم من الغرب والمواطنة والحريات والدستور ومدنية الدولة وغيرها، لم تُحسم في أدبياتهم المعرفية ومنشوراتهم الفكرية، مع تخوّف ينتاب قياداتهم من انفضاض الشارع عند التصريح بها. وأخيراً... هناك حاجة ماسة في وطننا العربي للقيام بمراجعات شاملة وصادقة، فكرية وسياسية، تستهدف البحث عن مكامن القوة وحمايتها والمحافظة على المكتسبات وتطويرها، وأهم تلك المراجعات الفكرية المعاصرة؛ ما يسهم في ردم الهوات ودفن الخنادق التي صنعتها الأحداث الماضية بين أبناء المجتمع الواحد، والتي فرقت البلاد العربية إلى طوائف وميليشيات قتل وإرهاب باسم الدين أو الوطن، ولا وجود حقيقي وواقعي لتلك المراجعات في مجتمعاتنا؛ إلا بتولي الراسخين في العلم والفكر هذا الدور والإبانة عن تلك المخاطر ورسم خارطة النجاة التي تعيد لبلادنا السلام والوئام بعد حقبة السبع العجاف!
مشاركة :