تعود فكرة كتاب «عبقرية اللغة» في الأصل إلى محررة من الأصدقاء، اقترحتْ عليّ البحثَ عن عدد من الكتّاب الذين يكتبون باللغة الإنكليزية وهم ليسوا من أبنائها في الأصل، بل يتكلمون لغات أخرى؛ أطلب منهم كتابة مقالات عن الفرق بين اللغتين. لم يكن من عادتي قبول اقترحات زملاء المهنة، لكن هذه الفكرة أدهشتني إلى الحد الذي لا يمكنني مقاومتها معه. فكرة جذابة جدًا، أن تكون هناك لغةٌ أصليةٌ مختبئة تتسربُ إلى تلك اللغة التي يكتب بها الكاتب: تُؤثرُ فيها وتعيدُ تشكيلها. لعل ذلك يصدق حتى على الكتاب الذين لا يعرفون إلا لغة واحدة. حين دعوتُ كتّابنا الخمسة عشر للمشاركة في مشروع الكتاب، شجعتهم أن يكتبوا وكأن مشاركتهم سيرة ذاتية لهم؛ فحكاية اللغة الأم ليست مسألة لسانية أو أدبية فحسب، بل هي مسألة تمسُّ حياة الناس وشعورهم تجاهها. ولأن هذه الحياة تضمنت انتقالًا، وانتقالًا قسريًا في غالب الأحيان، من بلاد إلى أخرى ومن عائلة إلى أخرى أو من ثقافة إلى أخرى، فإن قصتها ستحكي لنا عما هو أكبر وأوسع أفقًا من القضايا التاريخية والسياسية التي تزامنت معها. ولكنّ الهمّ الرئيس في هذا العمل هو محاولة كشف الحجاب عن المورد الذي يستقي منه كتّابٌ قديرون؛ والتنقيب داخل كل الطبقات الممكنة لمعرفة الطبيعة الموروثة، وقيمة الأصالة و(العبقرية) في الكتابة. إن ما أردته من الكتّابِ، وهو ما تحصلت عليه بالفعل لاحقًا، ليس شيئًا متشابهًا، فالكتّاب مثل القطط، لا يعيشون في قطيع. ولو أن الكتّاب كانوا قطيعًا متشابهًا، لأصبحت الحياة والعمل مع الكتابة مصدرًا للملل. إن الحديث عن كتّاب جاؤوا إلى عالم الإنكليزية بعد ولادتهم في أحضان لغاتهم الأم من غيرها سيجعل من جوزيف كونراد (جوزيف كونراد روائي بولندي بريطاني، لم تكن الإنكليزية لغته الأم. يعدّ من أهم الروائيين في الإنكليزية «توفي 1924م». أولَ من يجيءُ في البال)؛ فإنه الأب الأعظم لهذه القائمة، وهو الروح التي ترعى كتابًا مثل كتابنا هذا. ولأن مقالاتنا هنا كتبت خصيصًا لأجل هذا الكتاب، فإنه -ولأسباب واضحة- لم يكن بالإمكان الحصول على مقالة من كونراد (المتوفى في العام 1924م). لذا فأنا سأحاول أن أقوم بتهريبه إلى هذا العمل من الباب الخلفي، ولكن عبر حضوره في المقدمة. في بداية طبعة العام 1919م من سيرته الذاتية المعنونة بـ «سجل شخصي»، حاول كونراد جاهدًا أن يدحض الانطباع القائل إنه اختار أن يكتب بالإنكليزية. إن كونراد ابن للغة البولندية، وهو يعرف الفرنسية جيدًا، لكنه حين أراد كتابة الرواية، كانت الإنكليزية هي سيدة خياله: «الحقيقة أن قدرتي على الكتابة بالإنكليزية لا تختلف في طبيعتها عن أي موهبة طبيعية ولدت معها. عندي شعور غريب وبالغ القوة أن الإنكليزية كانت جزءًا موروثًا من ذاتي. لم تكن الإنكليزية بالنسبة لي قرارًا ولا اختيارًا. ولم ترد حكاية الاختيار وسطحيتها في ذهني أبدًا. كما أنني لم أقرر تبنيها. لقد كان هناك فعلًا حدثُ تبني، ولكن عبقرية اللغة هي ما تبناني، لقد أخذتْ بيدي مباشرة بعد مرحلة التمتمة الأولى وجعلتني ابنًا لها بشكل كامل، حتى كأن أمثالها وحكمتها كان لها مفعول مباشر على مزاجي، وتشكيل شخصيتي». يدرك كونراد أن علاقته بالإنكليزية مختلفة عن علاقة أولادها الأصليين بها؛ لكنه يرى أن حميميته معها لا تقل عن ذلك إن لم تكن أعظم. «كانت المسألة مسألة اكتشاف وليست مسألة وراثة؛ فالشعور بالنقص في علاقتي بالإنكليزية بصفتي لستُ من أولادها جعل من الرغبة في التمكن منها أثمن، كما بسط أمامي شعورًا خالدًا بالواجب أن أعمل لأستمر في استحقاقي لهذه الثروة. ... وبعد كل هذه السنوات من العمل المخلص الدؤوب، وكل ما رافقها من الآلام المتراكمة في قلبي بسبب التعثر والقصور والظنون، كل ما آمل أن أتمكن من قوله هو أنه يجب أن أُصدّقَ حين أقول إنني لم أكن لأكتب أبدًا إن لم أكتب بالإنكليزية». نأي عن اللغة الأصل سيقول بعض كتّاب مقالات هذا الكتاب - وربما قالوا- ذلك عن أنفسهم. إذ ربما كان كسر الحواجز، والنأي عن اللغة الأصل، هو ما يصنع من الكاتب كاتبًا. لذا فإن كِتابًا سُئلت فيه مجموعة متنوعة من المؤلفين ثنائيي اللغة أن ينظروا في الفروق بين لغاتهم الأصلية والإنكليزية سيكون حتمًا عن اللغة المتبناة -الإنكليزية- بمقدار ما سيكون عن كل شيء آخر. كان كونراد قد استخدم عبارة «عبقرية اللغة» في معرض حديثه عن الإنكليزية؛ هي تلك الحالة التي تشعر فيها أن اللغة الإنكليزية قد احتوتكَ وألقت عليك رداءها، عبر الكتب أو الأفلام أو الناس. ومع ذلك فإن إحدى غايات الكتاب أن يكون حافزًا لتتجلى لنا بعض خصائص اللغة الأصل: أن يدفع كتّابنا للتعبير بالإنكليزية عن فرائد خصائص لغاتهم الأم. فالأمر ليس من السهولة بمكان حين يحاول الكاتب ذكرَ أدوات عبوره حدود المناطق اللغوية والأدبية، الأمر الذي قال عنه كونراد نفسه: «مهمة كنت قد ذكرتُ أنها مستحيلة»، لكن كُتّابنا جميعًا هنا بذلوا جهدًا في المحاولة. وخلال قراءة قصص اكتشاف كتّابنا للإنكليزية، سيتعلم القارئ شيئًا كذلك عن خصوصية كل تجربة، وعن شعور القرار والسكنى، سواء أكانت التجربة والروح فرنسيةً أم يونانية، أم كورية، أم روسية. وقد لا تكون علامات اللغة الأصل في بعض الأحيان صريحةً؛ عندها يجب عليك أن تقتربَ أكثر لتستمع، وأن تنصت للصوت الرقيق لتدرك مواطن تأثير اللغة الأم على اللغة الجديدة. روح الدعابة، والسجع، والتركيز على الزمان والمكان، والميل إلى الحكاية أو إلى التحليل، وبناء الحكاية على صوت المتكلم، وغيرها؛ أدواتٌ قد يحملها الكاتب من لغته الأم إلى الإنكليزية. وهنا يجدر القول أن هذه المقالات ليست عملًا علميًا محكمًا في حقل اللسانيات أو الأنثروبولوجيا أو الأدب المقارن. لا أحد من هؤلاء الكتاب كان قد تدرج ليكون لسانيًا، أو حمل شهادة عليا في حقلها. إن كل المشاركين مؤلفون، كتّابٌ أُختيروا للمشاركة بناء على كتابتهم بالإنكليزية، وهي السبيل الوحيد لي لمعرفتهم والتعرف إلى أعمالهم. لقد كان زعمي أننا قد نتعلم من كتّاب الرواية، والمسرحية، والنقد، والصحافة الأدبية، أمرًا لم يكن لنا أن نتعلمه من علماء اللغة. كما أن هذا العمل ليس محاولة لتمثيل لغات العالم، تلك التي قد يتجاوز عددها ستة آلاف لغة مختلفة. صحيح أنني حاولت أن أنظر إلى الجغرافيا قليلًا، لكنه لم يكن جهدًا حقيقيًا. لدينا فراغ كبير بسبب غياب لغات كالعربية واليابانية والبرتغالية، على سبيل المثال لا الحصر. لدينا في هذا العمل كاتب واحد فقط من القارة الأفريقية. وفي المقابل الكثير من أوروبا، كما أن كثيرًا منهم من اليهود. قد يكون ذلك بسبب التقلبات الجيوسياسية خلال القرن العشرين، التي جعلت عددًا كبيرًا من اليهود يهاجرون إلى اللغة الإنكليزية، وجعلت عددًا منهم كتّابًا. عمل شاق والأمر الذي ينبغي أن يقتنع به القارئ هو أنني اجتهدت في إقناع المشاركين بهذا العمل الشاق، أي كتابة المقالة. وفي هذا السياق أتذكر فقرة من مسرحية «هنري الرابع، الجزء الأول» لشكسبير، حين ادّعى جلنداور قائلًا: «إن في استطاعتي أن أدعو الأرواح من أعماقها السحيقة». حينها دمغه هوتسبر برده: «أنا كذلك أستطيع دعوتها، بل ويستطيع دعوتها كل إنسان، ولكن المهم هو إن كانت ستستجيب لك تلك الأرواح عند دعوتها». والذي سيجده قارئ هذا الكتاب هو تلك الأرواح التي استجابت للدعوة. كما أن مسألة ثنائية اللغة ليست بينةً جدًا، لذا فقد طلبتُ من الكتّاب -فقط- أن يتحدثوا عن العلاقة بين لغاتهم الأم وبين الإنكليزية. والحقيقة أن مفهوم اللغة كله قد لا يكون بهذا الوضوح المزعوم؛ فقد يرى البعض أن اليدشية فرع عن الألمانية، وأن الاسكتلندية فرع عن الإنكليزية. كان كل هذا الجدل قد رسم خطًا فاصًلا حول معنى اللهجة أو كيفية تناوله؛ كما اتسع هذه الخط بسبب تنوع أعمار كتّابنا المشاركين. فقد سلك كلُّ جيل سبيلاً مختلفًا نحو الإنكليزية، كما فعلت كل بلد، أو كل ثقافة. يبقى أن هناك خيطًا ربط بين كل المقالات. إذ كانت ثمة نزعة واضحة في المقالات تجاه اعتبار لغة مرحلة الطفولة والطفولة أمرًا واحد. إن النظر إلى لغة الطفولة بوصفها شيئًا محسوسًا وربط الكلمة بشيء ذي واقع مادي هو كما وصفه راندال جاريل: «للكلمة واقع محسوس مثل أيّ شيء: مثل أيّ شيء يمكنك أن تمسك به رأسًا على عقب، أو أن تعبث به مثل دمية، أو أن ترميه على أحدهم مثل لعبة أطفال». كانت هذه النظرة للكلمة حاضرة هنا. إن النفيَّ من الطفولة زمنًا هو قدر الناس جميعًا، لكن كتّابنا كانوا قد نفوا من طفولتهم مكانًا كذلك. يشعر كتّابنا أن هذا الشيء المفقود من تجربة الطفولة ما زال حياً في مكان ما، ويمكن الولوج إليه عبر اللغة وحدَها. فنصبح نحنُ القراء أمام لمحة من بلاد يتصورها الكاتب؛ بلاد يجتمع فيها الخيال، والذاكرة، والفقد. وإنه لمن المفارقة أن أحرر أنا كتابًا يكون فيه المهجر أو المنفى موضوعًا رئيسًا. فبقدر ما إن الكتاب عن عبقرية اللغة، فهو كذلك مرتبطٌ بالأرض، والثقافة، والسياسة، والتاريخ. وها أنا بتواضع كبير، أحادية اللغة أحرر عملًا عن ثنائية اللغة. كما أنني أبعد ما أكون عن فكرة المهجر والاغتراب؛ فأنا أعيش على بعد أربعين ميلًا من المكان الذي نشأتُ به ولم أبتعد عنه لفترات طويلة أيام سنيّ حياتي. لقد اكتسيتُ دون عناءٍ ما يتوق إليه هؤلاء الكتّاب المهجّرون، وهو العودة إلى أرضهم المفقودة، الأرض التي تركوها هم أو عائلاتهم قسرًا. لكن هذا الحق المكتسب بالولادة لم يجعلني غير مدركة لما قد يشعرون به. أقود سيارتي فوق جسر سان فرانسيسكو، مع الفجر أو مع المغيب، فأنظر إلى تلك البلاد المألوفة تمامًا وأتذكر كلمات بريخت من مسرحيته «دائرة الطباشير القوقازية» عن بلاد المرء وحبه لها: «لأن الخبز فيها ألذ، ولأن السماء أعلى، ولأن الهواء أزكى، ولأن الأصوات تبدو أقوى، ولأن المشي على أرضها أيسر. أليس الأمر كذلك؟»، وقد يكون إدارك حقيقة الأشياء أحيانًا أعمق حينَ غيابها أو فقدها. كما أدرك كونراد ما أدركه من الإنكليزية لأنه اكتشفها ولم يرثها. هذه هي السبيل التي أفهم من خلالها ما كان يشعر به بريخت، الذي كان في مهجره في كاليفورنيا حين كتب هذه الكلمات. وهذه هي السبيل التي أفهم من خلالها ما يكتبه أيّ كاتب مغترب عن بلاده، وحين يكتب عن لغته المفقودة. «مقدمة كتاب يصدر قريبًا عن دار أثر بالتعاون مع الموسوعة العالمية للأدب العربي» (أدب).
مشاركة :