حققت الحرب العالمية الثانية ما لم تستطع الحرب العالمية الأولى تحقيقه، فقد أنهت حقبة من الهيمنة الأوروبية على العالَم، وعلى الرغم من نمو أوروبا وازدهارها منذ عام 1945، فإنها لم تستعد مكانة الزعامة العالمية التي حظيت بها دولها الرئيسة ذات يوم، وهذا يجعل الاتحاد الأوروبي اليوم تحت رحمة الولايات المتحدة التي رفضت التعددية واحتضنت القومية. لقد مَرّ قرن كامل، مئة عام منذ وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وفي أبهة عظيمة وبذخ احتفلت بالذكرى المئوية كل من أستراليا، وكندا، وفرنسا، والمملكة المتحدة، وأرسلت ألمانيا مسؤولين رفيعي المستوى إلى فرنسا للاحتفال بهذه المناسبة، والتأكيد من جديد على المصالحة بين البلدين، لكن المصالحة بين فرنسا وألمانيا لم تتأتَّ إلى أن عانت أوروبا حربا مدمرة أخرى، وهذا يوضح إلى أي مدى قد يكون السلام هشاً، وخاصة عندما يكون القادة السياسيون قصيري النظر كما هي حالهم غالبا. على النحو الملائم تماما، اختار المؤرخ كريستوفر كلارك من كمبريدج لكتابه الصادر في عام 2012، والذي تناول فيه أصول الحرب العالمية الأولى، عنوان "السائرون نياما"، بفِعل تركيبة من العمى المتعمد، والشعور بالرضا التام عن الذات، والعناد الشديد، أخضع قادة أوروبا بلدانهم لصراع تسبب في تدمير جيل كامل. بحلول الوقت الذي شهد اندلاع الحرب العالمية الأولى، كان من الواضح أن ثورة التصنيع والنقل حولت الهيئة التقليدية للحرب، فخلفت حرب القرم في الفترة من 1853 إلى 1856 أكثر من مليون ضحية؛ وأسفرت الحرب الأهلية الأميركية في الفترة من 1861 إلى 1865 عن موت أكثر من 600 ألف شخص. وعلى الرغم من هذه التجارب، تمسكت قيادات أوروبا بمقولة الـمُنَظِّر العسكري كارل فون كلوزويتز من القرن التاسع عشر: "الحرب استمرار للسياسة عن طريق سبل أخرى" وعلى هذا، استمرت السياسة في هيئة حرب، مما أسفر عن وقوع 20 مليون ضحية بين عسكريين ومدنيين. رغم هذا، لم يكن ذلك كافيا لإيقاظ السائرين نياما، وفي السنوات التي أعقبت الهدنة، فشل قادة أوروبا في تجاوز الخلافات التي كشفت عنها بوضوح الحرب العالمية الأولى، والتي كانت التوترات بين الفرنسيين والألمان أبرزها وأشدها وضوحا. انعكس هذا الفشل في الهدنة ذاتها، التي فرضت على ألمانيا متطلبات مفرطة القسوة، بما في ذلك مليارات الدولارات كتعويضات، والتي كانت مستحقة عليها في وقت واجهت فيه البلاد أزمة اقتصادية طاحنة، من ناحية أخرى، كان الإشراف الدولي ضعيفا للغاية، حتى أن عصبة الأمم التزمت الصمت إلى حد كبير في مواجهة تطورات بالغة الخطورة، مثل إقدام أدولف هتلر على إعادة تسليح وعسكرة إقليم راينلاند في غرب ألمانيا، ومن المؤكد أن رفض مجلس الشيوخ الأميركي لعصبة الأمم في عام 1919- وبالتالي مبادئ التعاون الدولي والتعددية التي روج لها الرئيس وودرو ويلسون- أدى إلى تفاقم الأمور سوءا على سوء. الأمر الأكثر جوهرية هو أن الحرب العالمية الثانية اندلعت بسبب السماح للنزعة القومية بالتمادي في غيها. على سبيل المثال، ظل رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو أسيرا لنزعته القومية العميقة، وبشكل خاص ظل على عدائه الشديد لألمانيا، ولكن برغم أن نهج كليمنصو ربما يقود إلى كسب الحرب (وخصوصا إذا ظهرت قوة مثل الولايات المتحدة لتقديم مساعدة حاسمة)، فإنه من غير الممكن أن يؤدي إلى كسب السلام؛ فالقومية الصارمة تقود بطبيعتها إلى الصراع. رغم كل ذلك، نرى اليوم زعيما عالميا كبيرا، وهو رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب، يتصرف على نحو أشبه كثيرا بتصرفات كليمنصو، ولا يخلو هذا من عواقب وخيمة ليس على الولايات المتحدة فحسب، بل أيضا أوروبا، ولا شك أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يتبنى "مبادئ ويلسون" التي يرفضها ترامب، ولكن كما أظهرت فترة ما بين الحربين بوضوح صارخ، فمع عدم قبول الجميع للقواعد والمبادئ الأساسية، يصبح من غير الممكن الحفاظ على المؤسسات التي تدعمها وتصونها. حققت الحرب العالمية الثانية ما لم تستطع الحرب العالمية الأولى تحقيقه: فقد أنهت حقبة من الهيمنة الأوروبية على العالَم، وعلى الرغم من نمو أوروبا وازدهارها منذ عام 1945، فإنها لم تستعد مكانة الزعامة العالمية التي حظيت بها دولها الرئيسة ذات يوم، وهذا يجعل الاتحاد الأوروبي اليوم تحت رحمة الولايات المتحدة التي رفضت التعددية واحتضنت القومية. بطبيعة الحال، تقع وفرة من المخاطر التي تواجهها أوروبا داخل حدودها، ففي فرنسا، على سبيل المثال، يتجاهل كثيرون التحذيرات التي يصدرها ماكرون- أو بشكل أكثر وضوحا، تحذيرات كتب التاريخ- وهم يقاومون الجهود التي يبذلها رئيسهم لحمل لواء التعددية. مكمن الخطر اليوم هو أن الأجيال التي لم تعرف الحرب، قد تعيد إنتاج سلسلة الأحداث التي أدت إلى الحرب، ويتجلى هذا الخطر في احتجاجات "السترة الصفراء" في فرنسا ضد الضريبة البيئية على الوقود، كما كان المقصود من الاحتجاجات أن تخدم أيضا كتوبيخ أوسع نطاقا لماكرون، الذي يلومه كثيرون عن انحدار قدرتهم على الإنفاق. ربما يتصور المحتجون أنهم يتصرفون بروح ثورة 1789 الفرنسية، الروح التي يجددها الفرنسيون دوريا في السياسة التي تنتهجها دولتهم، لكنهم في حقيقة الأمر يعيدون تمثيل أحداث ثلاثينيات القرن العشرين، التي شهدت نشوء الحركات الاحتجاجية اليمينية وميليشياتها. هذا لا يعني أن المواطنين الفرنسيين- وخاصة الشباب بينهم- ليس لديهم ما يستحق الشكوى، فقد ظلت معدلات البطالة مرتفعة للغاية لفترة طويلة، ورغم أن فرنسا أفلتت إلى حد كبير من اتساع فجوة التفاوت في الدخل إلى الحد المشهود في دول أخرى، مثل الولايات المتحدة، فإن أشكال التفاوت الجهازية منتشرة. لكن الحقيقة هي أن الرفض العاطفي لأي شخص أو مؤسسة حتى إن كان ارتباطها بعيدا بالنخب الراسخة- بما في ذلك الأحزاب السياسية الرئيسة والنقابات العمالية- يسمح للدهماء الشعبويين باستغلاله، ولن يكون التاريخ أكثر وضوحا بأي حال بشأن المخاطر التي تتولد عندما ينجح أمثال هؤلاء الدهماء في الاستيلاء على السلطة. لقد تغير العالَم بشكل عميق خلال القرن المنصرم، وأصبحت اقتصاداتنا أشد تشابكا من أي وقت مضى، ومن المؤكد أن حجم الدمار الهائل الذي قد تحدثه أسلحة اليوم ربما يدعو إلى شيء أشبه بضبط النفس وكبح المشاعر. ولكن كما يتضح لنا بشكل صارخ من رئاسة ترامب الشاذة المنحرفة- بما في ذلك تحديه لتحالفات قديمة ومواقفه المتهورة في التعامل مع القضايا النووية- فإن الصروح التي بنيناها للحفاظ على السلام ليست حصينة ضد الإخفاق أو التعطل بأي حال من الأحوال، ومع احتضان الشعوب في أرجاء الغرب كافة لأفكار قومية وشعبوية، عدنا من جديد إلى الرقص على حافة البركان. * دومينيك مويزي * كبير المستشارين في معهد مونتين في باريس، ومؤلف كتاب "جيوسياسية المتواليات أو انتصار الخوف". «بروجيكت سنديكيت، 2018» بالاتفاق مع «الجريدة»
مشاركة :