من صحت له معرفة ربه والفقه في أسمائه وصفاته، عَلِم يقينا أن المكروهات التي تصيبه والمحن لتي تنزل به فيها ضروب من المصالح والمنافع التي لا يحصيها علمه ولا فكرته قال الله تعالى (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) في هذه الآية الكريمة - كما يقول ابن القيم - عدَّة حكم وأسرار ومصالح للعبد: ذلك أن العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب، والمحبوب قد يأتي بالمكروه، لم يأمن أن تُوافيه المضرّة من جانب المسرة، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة، لعدم علمه بالعواقب، فإن الله يعلم منها ما لا يعلمه عبده. ومِن أسرار هذه الآية: أنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم عواقب الأمور، والرضا بما يختاره له ويقضيه له، لما يرجو فيه من حسن العاقبة. ومنها: أنه لا يقترح على ربه، ولا يختار عليه، ولا يسأله ما ليس له به علم، فلعل مضرّته وهلاكه فيه وهو لا يعلم، فلا يختار على ربّه شيئا، بل يسأله حسن الاختيار له، وأن يرضيه بما يختاره، فلا أنفع له من ذلك. ومنها: أنه إذا فوّض إلى ربه، ورضي بما يختاره له، أمده فيما يختاره له بالقوة عليه والعزيمة والصّبر، وصرف عنه الآفات التي هي عُرضَةُ اختيار العبد لنفسه، وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره هو لنفسه. ومنها: أنه يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات، ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات التي يصعد منها في عقبة وينزل في أخرى، ومع هذا: فلا خروج له عما قُدِّر عليه، فلو رَضِيَ باختيار الله؛ أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به فيه، وإلا: جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به فيه، لأنّه مع اختياره لنفسه. ومتى صح تفويضه ورضاه، اكتنفه في المقدور العطف عليه، واللطف به، فيصير بين عطفه ولطفه، فعطفه يقيه ما يحذره، ولطفه يهون عليه ما قدره. والإنسان - كما وصفه خالقه - ظلوم جهول، فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يضره وما ينفعه ميله وحبه ونفرته وبغضه، بل المعيار على ذلك ما اختاره الله له بأمره ونهيه، فانفع الأشياء له على الإطلاق طاعة ربه بظاهره وباطنه، وأضر الأشياء عليه على الإطلاق معصيته بظاهره وباطنه، فإذا قام بطاعته وعبوديته مخلصا له فكل ما يجري عليه مما يكرهه يكون خيرا له، وإذا تخلّى عن طاعته وعبوديته فكل ما هو فيه من محبوب هو شر له. فمن صحت له معرفة ربه والفقه في أسمائه وصفاته، عَلِم يقينا أن المكروهات التي تصيبه والمحن لتي تنزل به فيها ضروب من المصالح والمنافع التي لا يحصيها علمه ولا فكرته، بل مصلحة العبد فيما يكره أعظم منها فيما يحب، فعامة مصالح النفوس في مكروهاتها، كما أن عامة مضارها وأسباب هلكتها في محبوباتها. وقضاء الرب سبحانه في عبده دائر بين العدل والمصلحة والحكمة والرحمة، لا يخرج عن ذلك البتة، كما قال في الدعاء المشهور: «اللهم! إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي. ما قالها أحد قط إلاّ أذهبَ الله همّه وغمه، وأبدله مكانه فرجا». قالوا: أفلا نتعلّمهن يا رسول الله؟ قال: «بلى! ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن»[رواه مسلم]. والمقصود قوله: «عدل في قضاؤك»، وهذا يتناول كل قضاء يقضيه على عبده، من عقوبة، أو ألم، وسبب ذلك، فهو الذي قضى بالسبب وقضى بالمسبب، وهو عدل في هذا القضاء، وهذا القضاء خير للمؤمن؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء؛ إلا كان خيرا له، وليس ذلك إلا للمؤمن» قال العلامة ابن القيِّم: فسألت شيخنا [يعني شيخ الإسلام ابن تيمية]: هل يدخُلُ في ذلك قضاءُ الذنب؟ فقال: نعم بشرطه. فأجمل في لفظه (بشرطه) ما يترتب على الذنب من الآثار المحبوبة لله من التوبة والانكسار والندم والخضوع والذل والبكاء وغير ذلك. وتفويض الأمور إلى الله تعالى، لا يعني الاحتجاج بالقدر على فعل الذنوب والمعاصي، بدليل قول الله تعالى: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون)، فهؤلاء المشركون احتجوا بالقدر على شركهم، ولو كان احتجاجهم مقبولا صحيحا ما أذاقهم الله بأسه. فمن احتج بالقدر على الذنوب والمعايب فيلزمه أن يصحح مذهب الكفار، وينسب إلى الله الظلم تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ: (وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين، وسائر أهل الملل، وسائر العقلاء؛ فإن هذا لو كان مقبولاً لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس وأخذ الأموال، وسائر أنواع الفساد في الأرض، ويحتج بالقدر. ونفس المحتج بالقدر إذا اعتدي عليه، واحتج المعتدي بالقدر لم يقبل منه، بل يتناقض، وتناقض القول يدل على فساده، فالاحتجاج بالقدر معلوم الفساد في بدائه العقول). وإنما المطلوب أن يفعل الإنسان ما أمره الله به ورسوله، فإذا قدَّر الله عليه أقدارا مؤلمة، ومصائب موجعة، فإنه يصبر، ويحمد الله على كل حال، لعلمه أن اختيار الله له خير من اختياره لنفسه، ولعلمه أن الله لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له.
مشاركة :