صار الحديث عن أزمات إسرائيل لازمة في الخطاب السياسي العربي، على نحو ما شهدنا مؤخّراً، مثلاً، في أعقاب تقديم أفيغدور ليبرمان، وزير الدفاع السابق، استقالته من الحكومة، أو قيام جهاز الشرطة الإسرائيلية بتوجيهات اتهامات لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وهو الرجل الذي شغل هذا المنصب أكثر من أي رئيس حكومة سابق، باستثناء دافيد بن غوريون (المؤسس)، ناهيك انه زعيم أكبر حزب في إسرائيل. هكذا، يغيب عن بال كثر عندنا أن أزمات إسرائيل، وهي كثيرة وعميقة، تختلف عن أزماتنا، التي تتعلق بقصور قدرتنا على بناء مجتمعات مواطنين، في حين أن إسرائيل، التي قامت على جلب اليهود من مختلف أنحاء العالم، مع انتمائهم إلى أثنيات مختلفة وحديثهم بلغات متعددة، استطاعت دمجهم، وتشكيل الهوية الإسرائيلية، في نظام مواطنين متساوين (طبعا بالمعنى النسبي)، وهو ما لم نستطعه ولا حتى على مستوى البلد الواحد، رغم اننا ننتمي إلى اثنية واحدة رئيسية، ورغم اننا نتحدث لغة عربية واحدة. أيضا، استطاعت إسرائيل بناء دولة مؤسسات وقانون، ذات نظام ديمقراطي، وهي تحظى بانتخابات دورية، بالطريقة النسبية التي تتيح المشاركة للجميع، وتعتمد الفصل بين السلطات (التشريعية والقضائية والتنفيذية)، وتداول السلطة، وحرية الأحزاب والرأي والتعبير، في حين أننا لم نستطع بناء دولة مؤسسات وقانون، بمعنى الكلمة، ناهيك عن تعثر الديمقراطية، ومصادرة الحريات في معظم العالم العربي. وبديهي أن الحديث عن نظام ديمقراطي في إسرائيل، رغم كل الثغرات فيه، هو أمر يخصّ مواطنيها اليهود، أساساً، بمعنى أن ذلك لا يحجب، ولا يبيّض، حقيقة إسرائيل كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية ودينية (وإن تم استخدام الأسطورة الدينية على وجهين، الديني والقومي). مفيد التذكير هنا أن إسرائيل شهدت عشرين دورة انتخابية للكنيست، منذ قيامها (1948)، في 70 عاماً، بمعدل دورة انتخابية كل 3,5 سنة، وتداول على رئاسة حكومتها 12 شخصا، بمعدل حوالي ستة سنوات للشخص الواحد، ينتمون إلى عديد من الأحزاب، وإن كان أهمها، العمل والليكود. في غضون ذلك لنلاحظ، أيضاً، أن هذه الدولة متفوقة اقتصادياً، إذ أن الناتج السنوي لها بات يقدر بأكثر من ثلاثمائة بليون دولار، ومعدل دخل الفرد فيها وصل إلى 36 ألف دولار، علما أن ناتجها السنوي قبل أعوام قليلة كان يقدر بحوالي 206 بليون دولار، مع دخل فردي قدره 27 ألف دولار؛ أي انها دولة مستقرة وتتطور. فوق ذلك فهي تعد من الدول الأولى في العالم في انفاقها على البحث العلمي، 3.5 بالمئة من اجمالي دخلها السنوي، وهو يزيد عما ينفقه العالم العربي كله. وتصدر إسرائيل بما قيمته 66 بليون دولار سنويا، معظمها من الصناعات المتطورة والالكترونيات، وهذا يعادل 25 بالمئة من صادرات العالم العربي من الصناعات التحويلية، في حين تخصص 16 بليون دولار لأغراض الانفاق على المجالات الأمنية والعسكرية، مع التذكير بأن إسرائيل تنفق نسبة كبيرة من موازنتها على التعليم والبحث العلمي والتطوير التكنولوجي، حتى باتت من أهم الدول انتاجا لصناعات الهاي تيك والبرمجة على صعيد العالم. طبعا، هذا لا يعني أن إسرائيل هي دولة فريدة من نوعها، وخالية من التناقضات، فثمة فيها تناقض بين المتدينين والعلمانيين، وبين الشرقيين والغربيين، وبين اليسار واليمين، وبين الأغنياء والفقراء، وبين دعاة الهوية الإسرائيلية ودعاة الهوية اليهودية العالمية، كما بين العرب واليهود المستوطنين الخ، لكن ما يفترض ادراكه هنا ان طريقة عمل النظام الإسرائيلي، ونمط الثقافة السائدة، وانتهاج الديمقراطية والانتخابات، تساعد على هضم هذه الخلافات أو التناقضات والسيطرة عليها، وإدارتها بطريقة لا تخل كثيرا بأداء النظام، أو بالاستقرار الاجتماعي والسياسي في البلد. حسنا، وإزاء كل ذلك، ماذا عن حالنا؟! عن ادراكاتنا القاصرة لعدونا؟ فأن يطلب جهاز الشرطة رئيس الحكومة، وزعيم اقوى حزب، للتحقيق فهذا دليل قوة ومنعة للنظام الاسرائيلي، بغض النظر عن عدائنا لإسرائيل، إذ أن ذلك دليل فصل بين السلطات، وخضوع للقانون من أي مسؤول، ودليل تداول على السلطة وتمسك بالديمقراطية، أي ان ذلك ليس دلالة على ضعف. المفارقة أن الأنظمة السائدة التي سلبتنا الحرية والديمقراطية والتنمية والعيش الكريم برّرت كل ذلك بدعوى التفرّغ للقضية المركزية، أي قضية فلسطين، ومواجهة إسرائيل، في حين أن هذه الدولة الصغيرة، بمساحتها وعدد سكانها ومواردها، والمعزولة وسط محيط عربي هائل، ومعاد لها، تواصل حياتها، وضمنه انتخاباتها السياسة كل ثلاثة او أربعة أعوام!
مشاركة :