تصرّ إسرائيل على تكريس طبيعتها كدولة قومية لليهود، عمليا وقانونيا، عبر إزاحة الفلسطينيين من المكان والزمان، بين النهر والبحر، وفرض روايتها لتاريخ المنطقة، وإضفاء مشروعية سياسية تاريخية وأخلاقية عليها. كل ذلك يتم عبر تمثل الجوانب الآتية: أولاً، فرض سيطرتها على أرض فلسطين التاريخية كاملة من النهر إلى البحر، بشكل مباشر، أو غير مباشر، وفرض إملاءاتها على الفلسطينيين، بحسب أهوائها وادعاءاتها الدينية والأيدلوجية. صحيح أن الحديث هنا يتغطّى بفكرة “دولتين لشعبين” متعينين، إلا أنه يفيد، أيضا، بأن إقامة الدولة الفلسطينية سيتم وفقاً للحدود التي تفرضها، أو ترضاها، إسرائيل، وأن هذا الحل هو نهاية المطاف بالنسبة لحقوق، أو مطالب، الفلسطينيين؛ وهو الأمر الذي توضح في مجريات مفاوضات كامب ديفيد2 (2000). ثانياً، الترويج لوجهة نظرها باعتبار أن فلسطين التاريخية هي بمثابة أرض إسرائيل، أو “أرض الميعاد” خاصتها، أي كملك حصري لليهود، استنادا للأسطورة الدينية، ولو أن الصهيونية حركة علمانية، بما ينأى بها عن كونها موضعا للتصارع بين شعبين و”قوميتين”، أو بين حقين متساويين، فإسرائيل، وفقا لوجهة النظر تلك، صاحبة حق حصري، والفلسطينيون مجرد طارئين على الزمان والمكان. ثالثاً، رفضها، باعتبارها الدولة “القومية” للشعب اليهودي، وهي قومية مستندة إلى الدين فقط ليهود من شتى القوميات واللغات والهويات، رفضها تحمّل أية مسؤولية عن النكبة، وعن ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين (1948)، ورفضها حل هذه القضية داخل حدودها، لأن اليهود فيها فقط، بموجب ذلك، هم الذين يمتلكون حق تقرير المصير في تلك المنطقة، أما الفلسطينيون فيمكنهم تقرير مصيرهم لكن في دولتهم الخاصة، أو في أي مكان أخر. رابعاً، الضغط على الفلسطينيين، وابتزازهم، لتطويعهم، وفرض املاءاتها عليهم، عبر تهديد مواطنية الفلسطينيين في مناطق 48، أو عبر سحب بطاقات الإقامة من فلسطينيي القدس. ففي ظل هكذا تشريع سيصبح الفلسطينيون مجرد سكان، أفراد، ليس لهم حقوق سياسية جمعية او قومية؛ علما أن إسرائيل ظلت تتعاطى مع الفلسطينيين من مواطنيها في الإطار الفردي والطائفي فقط، أي من دون صفتهم الوطنية أو العربية. على الصعيد الإسرائيلي، فإن تأكيد يهودية الدولة أسهم في تعزيز مكانة التيارات القومية والدينية المتطرفة، التي تقف في أساس التوترات داخل المجتمع الإسرائيلي، على ما بتنا نشهد منذ بداية العام، في التوترات بين التيارين العلماني والديني، سيما مع مجيء حكومة اليمين القومي والديني المتطرف برئاسة بنيامين نتنياهو وشخصيات مثل بن غفير وسمتريتش، والتي لا يغطي عليها، أو يخفف من تفاقمها، سوى توجيه الأنظار نحو التحديات الخارجية، او ما تسميه إسرائيل الخطر الوجودي، والعداء العربي لها. وقد يجدر التذكير هنا بأن تأكيد يهودية الدولة، أو التجرؤ على هذا الطرح، هو أحد نتاجات اتفاق أوسلو (1993) البائس والمجحف والناقص، وهو تعبير موارب، القصد منه التغطية على حقيقة أن إسرائيل، صاحب السيطرة والغلبة، والمدعومة دولياً، هي التي تقرر ماهية المفاوضات ومساراتها ومآلاتها، وهذا ماحصل. معلوم أن “وعد بلفور” (1917) نصّ على “إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين”، وليس على إقامة دولة لليهود أو دولة يهودية. وتكرر ذلك في صك الانتداب، وفي توصيات اللجان الدولية حول فلسطين قبل قيام إسرائيل. كذلك فإن القرار 273، الصادر عن الأمم المتحدة (1949)، والذي اعترفت فيه دول العالم بإسرائيل، اشترط إنفاذ الدولة الناشئة للقرارين 181 (1947) و194 (1949)، الأول ويقضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية والثاني يقضي بحق العودة للاجئين الفلسطينيين، وهو ما وافقت عليه إسرائيل حينها، دون أن تنفذه. وما ينبغي ذكره هنا أن الحديث عن دولة يهودية في ذلك الوقت يختلف عن كونها الدولة القومية لليهود، لأن نص قرار التقسيم ضمن للفلسطينيين البقاء في الدولة المخصصة لليهود، ولليهود البقاء في الدولة المخصصة للدولة العربية. كما نص على إقامة نوع من الاتحاد الاقتصادي بين الدولتين، والإدارة الدولية في مدينة القدس. وهذا يعني أن الحديث عن اعتبار إسرائيل الدولة القومية لليهودية هو بدعة، وتأكيد جديد على الطابع الاستعماري والعنصري لهذه الدولة المصطنعة. فضلاً عن ذلك، فإن الحديث عن الدولة القومية لليهود اليوم، لا يقتصر على كونها دولة لليهود من مواطنيها، وإنما على اعتبارها دولة ليهود العالم، وأن إسرائيل، في هذا الطرح، تخرج الفلسطينيين من مواطنيها من دائرة المواطنة، او تهددهم بذلك، وهم في ارضهم. بيد أن هذا الكلام لا يعني أن إسرائيل لم تتصرف منذ قيامها (1948)، عمليا وقانونيا، من واقع كونها دولة يهودية، بغض النظر عن الصيغ القانونية، فضلا عن انها تترجم ذلك في قوانينها وضمنه “قانون العودة“، الذي يتيح لأي يهودي في العالم أن يأتي إليها ويحظى على المواطنة فيها، في حين تحرم الفلسطينيين من أرض الآباء والأجداد. كما أنها تجرد الفلسطينيين من حق تقرير المصير، باعتباره حقا حصريا لليهود، كونها دولتهم. كما ثمة “قانون أراضي الدولة” الذي يعتبر كل الأراضي ملكا للدولة يحظر بيعها او نقل ملكيتها، هذا يشمل رموزها أيضا، أي العلم والنشيد والكنيست، والقوانين المستمدة من التعاليم التوراتية. الأهم من ذلك إسرائيل تتصرف إزاء الفلسطينيين على هذا الأساس، وهذا ما يفسر طرد الفلسطينيين، ومحاولة إزاحتهم من الزمان والمكان. مع ذلك، فإن عنجهية إسرائيل تلك تنم عن شعور بالنقص، وافتقاد للطمأنينة، فهذه الدولة بعد أكثر من 7 عقود مازالت تبحث عن هويتها وعن تأكيد ذاتها، بدليل انفجار التصدعات داخلها. وهذه الدولة التي طالما عاشت على ادعاء انها واحة للديمقراطية والحداثة والعلمانية هاهي تتمخض عن دولة تعيش في ظل الأساطير التاريخية والدينية، وتتجه نحو تعريف ذاتها بالدين، والطائفة، بينما هي حائرة بين كونها دولة ديمقراطية أو يهودية، وبين كونها دولة علمانية أو دينية، إلى درجة بات يجري الحديث داخلها عن صراع بين دولة إسرائيل العلمانية ـ الليبرالية ودولة يهودا، أي دولة المستوطنين المتدينين المتطرفين.
مشاركة :