ليلة الثامن من نيسان (أبريل) عام 1951، انتحر صادق هدايت في باريس حيث كان يعيش منذ سنوات، ليدُفن في اليوم التالي في مقبرة الأب- لاشيز الباريسية. واستخدم هدايت انبوب الغاز المنزلي كوسيلة لإنهاء حياته، القصيرة أي حال، تاركاً لمن سوف يكتشفون جثمانه رسالة ومبلغ ألف فرنك فرنسي «يتوجب إعطاؤه للأهل تعويضاً بسيطاً لهم عما قد أكون سببته لهم من آلام». في ذلك الحين لم يكن اسم هدايت معروفاً خارج إطار الحلقات الضيقة للنخبة الثقافية الفرنسية، والإيرانية بالطبع. لكن انتحاره، عرّف الناس على روايته «البومة العمياء»، التي ستضحي منذ ذلك الحين، أشهر عمل أدبي إيراني حديث. والتي ستظل، العمل الوحيد المعروف والمتداوَل لهدايت. ومهما يكن لا بد من الإشارة هنا الى أنه بما أن هذا الكاتب لم يكن يعني شيئاً لكثر في ذلك الحين، فإن اسم الرواية طغى على اسم صاحبها حتى وإن كان ارتبط خلال حياته الباريسية بأسماء كبيرة لمبدعين لا يقلون أهمية عن يوجين يونسكو وآرثر اداموف وجان كوكتو وأندريه بريتون كانوا في عداد المحتفين به خلال إقامته في فرنسا. ولنقل بوضوح هنا إن «شرقية» صادق هدايت كانت هي التي تثير اعجابهم بالطبع، وكانوا يرون غريباً أن يأتيهم كاتب حداثيّ من إيران التي بالكاد يعرفون عنها شيئاً، ويجهلون بالتأكيد أن عمر الخيام الشاعر والعالم الذي كان معظمهم قد اكتشفه قبل ذلك، ينتمي مثله إلى الثقافة الفارسية. ولسوف يبقى عسيراً بالنسبة إليهم الربط بين هدايت والخيّام. بل إن مثل هذا الربط لن يخطر في بال كثر إذ منذا الذي كان في إمكانه أن يجد رابطا بين كاتب من القرن العشرين مغرق في الحداثة والنخبوية، وشاعر عاش قبل قرون عديدة ينتمي إلى أعرق الثقافات القديمة؟ وهنا قد لا يكون أمامنا مفر من أن نشير إلى أن هدايت كان، ومنذ وصل باريس، يصرّ على التملص من شرقيته. وربما كمنت هنا مأساته الكبرى. لكنها لم تكن المأساة الوحيدة التي أدت به إلى الانتحار، كانت واحدة، على الأقل، من أسئلته القلقة طوال وجوده القصير في هذا العالم. ولكن بين أن تكون مأساة صادق هدايت خاصة به، وأن تكون مأساة عامة تمس معظم مثقفي العالم الثالث والبلدان المتخلفة، الذين حدث لوعيهم الخاص والمجرد أن تجاوز وعي مجتمعاتهم، أو الصورة التي كانت متكونة لديهم عن وعي مجتمعاتهم، خطوة لا يمكن للمتحري عن حياة صادق هدايت ومأساته إلا أن يخطوها. بخاصة أن ثمة ما يغرينا بأن نرى في الأمر كله ما يمت بصلة إلى استقالة المثقفين النخبويين في العديد من بلدان العالم الثالث، طوال السنوات التي شهدت تخمّر شتى صنوف القمع والكراهية والذل والظلم. بيد أن حالة، متطرفة؟، مثل حالة صادق هدايت يمكنها ان تلقي اضواء كثيرة على ما يحدث في الجزائر أو في مصر، من اغتيال مؤلم للمثقفين، أو حتى على جذور العنف الذي جابه مسألة سلمان رشدي في حد ذاتها. > غير أن هذا ليس موضوعنا هنا، حتى وإن وجدنا من الضروري العودة إليه ولو بهذه الطريقة الموجزة في كل مرة نجدنا أمام موضوع يتعلق بأمثال صادق هدايت. صحيح أن موضوعنا اليوم يتعلق به، ولكن ضمن إطار لم يكن في حسبان رفاقه الباريسيين في ذلك الحين، ولا في حسبان الذين يعودون إليه وإلى أعماله بين الحين والآخر. وهذا الإطار هو ذاك الذي يضمه إلى عمر الخيّام بالتحديد. ولئن كان مثل هذا التأكيد يفاجيء البعض، فإنه لا يفاجئ الذين يتابعون سيرة صاحب «البومة العمياء». ومن بين هؤلاء الباحث والمترجم غسان حمدان الذي يستهل تقديمه لكتاب أصدره قبل فترة بعنوان «عمر الخيام وأناشيده ورباعيات تترجم لأول مرة» (دار الجمل - بغداد، بيروت 2017) بالعبارة التالية: «قد لا يعرف بعضهم أن صادق هدايت ألف كتابين حول الخيام، وأن كتابه الأول صدر بالفارسية في طهران عام 1924، ليكون في الوقت ذاته أول كتاب يصدره هدايت في حياته وكان يومها في الثانية والعشرين من عمره». ويضيف حمدان أن كتاب هدايت المبكر هذا قد احتوى على مئتي رباعية ورباعية. غير أن هذا العدد سرعان ما تقلص في الكتاب الثاني الذي أصدره هدايت في مرحلة لاحقة بعنوان «أناشيد الخيّام» حيث حذف خمساً وتسعين رباعية ليبقي على مئة وواحدة سيقول على اي حال ان بعضها قد لا يكون للخيام. غير أن هذا لا ينبغي أن ينسينا أن هدايت، - على رغم اشتغاله على الأصول الفارسية لأشعار الخيّام كما لسيرة حياته، إعتمد أساسا، ولا سيما في كتابته سيرة للخيام مهد بها للرباعيات، وتوسع فيها بالحديث عنه ليس فقط كشاعر بل كعالم ومفكر وبخاصة عالم رياضيات وفلكي، كان يكتب الشعر... في أوقات فراغه،، هدايت اعتمد في النصوص التي كتبها على المراجع الأجنبية ولا سيما على كتاب «ناريخ الأدب الفارسي» للمستشرق الإنكليزي إدوارد براون، بحسبما يورد المترجم حمدان في المقدمة ذاتها. > مهما يكن نبقى هنا مع مترجم كتاب هدايت ومقدمّه الذي يقول في نصه أن ما يؤخذ «على صادق هدايت أنه أبدى تعصباً شديداً تجاه الخيّام، إذ يعدّه أفضل من جميع الشعراء الإيرانيين على الإطلاق». وينقل حمدان ما يقوله هدايت في فصل من كتابه «أناشيد الخيّام»: «من الممكن العثور على كل فكرة من أفكار الخيّام بشكل منفصل عند كبار الشعراء والفلاسفة، ولكن في شكل عام، لا يمكن أن نزن أيّ واحد منهم بالخيّام. فالخيّام في أسلوبه يتفوق على أكثرهم» وكذلك ينقل المترجم عن فصل آخر من كتاب هدايت، وهو المعنون «الخيّام الشاعر»: «وبين المفكرين والشعراء الذين جاءوا بعد الخيّام، وقع البعض في هوى أنهم يقلدون أسلوبه، ويتبعون منهجه، ولكن ما استطاع أحد منهم أن يبلغ بساطة فكر الخيّام وعظمته». ومن اللافت هنا أن المترجم يعتبر هذا الكلام إجحافاً «بحق حافظ الشيرازي، ومولانا جلال الدين الرومي وفريد الدين العطار وشعراء كبار آخرين. ولعل من حق المترجم هنا أن يعزو هذا إلى أن صادق هدايت كان «يمقت الأدب الصوفي والمتصوفين الكبار، ولهذا السبب نراه يفضل الخيّام على الآخرين هو الذي يقول: «... ومع أن حافظ الشيرازي كان يمتلك رؤيا، وقوة تخيّل وإلهام شاعري أكثر من الخيّام بكثير، وكل هذا يعود إلى شهوته الجامحة، إلا أن أفكاره لا تبلغ شأو فلسفة الخيّام المادية المنطقية... إذ نراه يحوّل الخمر إلى رمز الصوفيين الغامض». > في نصّه الذي يتناول سيرة عمر الخيّام (وهو النص المكتوب عام 1923)، يقول صادق هدايت: «على كل حال، لا يمكن اعتبار الخيّام زاهدا بل إنه كان فيلسوفا يطلب الراحة والمرح من الأشياء الظاهرة والمحسوسة. والشيء الذي كان يسود ذهن الخيّام كان عبارة عن أمور الحياة المهمة، والموت، والقضاء والجبر والاختيار. ومهما طلب العون من العلوم والفلسفة والمذهب من أجل حلّ تلك الأمور إلا أن أياً منها لم تكن قادرة على إقناعه، لذلك استولى عليه يأس مرير بحيث انتهى به الأمر إلى النزعة الشكيّة، وجعله يبدي شكه في جميع الأشياء وطالما سار على منهج الشك. (...) إن تردد روح الخيّام وشكّه المؤلم إزاء القضاء والمطابق لعلومه الرياضية وأفكاره الشعرية، سبّبا له حالة من الهواجس والحزن ما جعله يحاول تسكينها دائما بمسرّات صغيرة وحقيقية (هو) الذي كان يفضّل إغفاءة السكر على المسرات التافهة والزائلة! إلا أن طلب الرحمة هذا لم ينقذه من الحزن فيتساءل الشاعر عن الستار السميك الفاصل بين الإنسان والعالم الآخر، ويستقصي آخر عناصر وجود الإنسان في قدح فخار أو في كوز من الخمر». > صادق هدايت المولود عند مفتتح القرن العشرين والذي درس تاريخ إيران ما قبل الإسلام في باريس، كان بالتأكيد واحداً من تلك النخبة المثقفة التي لم يكن من شأنها إلا أن تتبنى عمر الخيّام وتحمل إيديولوجيته. ومن هنا لن نستغرب إذ يُعْلمنا هذا الكتاب الجديد عن عمر الخيّام والذي يشكّل اكتشافاً حقيقياً أن صادق هدايت يعدّ «أول إيراني اهتم بدراسة رباعيات الخيّام علمياً، وهو ما فتح الطريق لجيل لاحق من كبار الأكاديميين الإيرانيين (الذين قاموا) بدراسة مخطوطات الرباعيات المحفوظة في المكتبات الأوروبية وحتى الهند...».
مشاركة :