حسان الحديثي لهفي على ما حال اليه حالُها وما آل اليه مآلُها بعد ان دارت عليها رحى الأيام وأزرى بحالها تناوب الدهر وجحدتها السنةُ ناسها ولفظتها قلوبُ ذويها وتباطأت بها الكلمات حتى اصبحت ثقيلةً على الناطقين بها فأشاح عنها اهلها بوجوههم فكانت كشيخ عقَّه ابناؤه او كمدنف ملَّه -بعد طول العلة- عوّاده، لقد غادَرَتْها الصحةُ ووذهبتْ عنها العافية حتى أمست -لفرط ضعفها- كليلةً حسيرة، وبائسةً كسيرة. قلبي عليها وهي منذ خلافة بني العباس تتهاوى من علياء قمتها وسماء ملكوتها فتلك الحقبة -وان كبر إيوانها وتوسع ديوانها ففاقت حدود الغيمة في مجراها ومرساها ومهما شرّقت وغرّبت تمطر في ملكها ويعود اليها بالخير خراجُها- الا انها ومنذ ذلك العهد لم تقم من علّة الا ووقعت بأعل منها وما تعافت من داء حتى اصيبت بأدهى منه، فذلك زمن وإن كان فيه عظماء شعرائها وجهابذة أدبائها إلا ان سدنة اللغة ورهبانها لا يرضون بأدبهم شاهداً ولا بقولهم حجة ولا بشعرهم دليلاً على صحتها وسلامتها ذلك أن العُجمة في زمانهم تلبّست بها تلبُّس الليل بالنهار وانتشرت فيها انتشار الريح الفاسدة في نقي الهواء يا من تسألني عن حال العربية والجواب لا يحتاج الى عالم او متعالم؛ إنها بعد ذلك قد اصيبت -بعد الضعف- بمقتل حين هدم هولاكو تاج البلدان ودرة الأكوان وقرة عين العواصم وعروس القرى والمدائن كعبة العلم وحاضرة الأدب، هدّها على رؤوس أهلها فأحرق كتبَهم وأغرّق كراريسَهم وجفّف دوياتهم وأيبس محابرهم فباتت العربية تتدحرج بين الالسنة وتتعثر على الشفاه وتتهاوى بين الاعاجم من ترك وفرس ومغول فانفصمت عراها وخبا بريقها وذهبت نضارتها حتى استحالت لحوناً بعد فصاحة و لهجات بعد بيان لا يكاد يفهم أهل قرطاج ما يقوله اهل الشام ولا تعي اذن البغدادي لسانَ ابن مراكش الا بإيضاح العبارة بالشرح والاشارة ثم جاء بعد ذلك زمان بعد طول ركود وسبات فيه بقية من الأولين من اهل الحميّة والفِطْرة والإخلاص والغَيْرة؛ زمان سُمي بعصر النهضة، الناهض من تتريك وتفريس ليعيد الى العربية بعضَ شبابها. بيد أنها كانت -لطول البلى- قد خبت بروقُها وتيبست عروقُها وضيعت الوجهة بين قديم مستغرب وجديد مستعرب فانقسم القوم الى فرقتين:فرقةٍ في اقصى اليمين ترى ان اللغة يجب ان تبقى على فطرتها الاولى.وفرقةٍ تريد ان تخلع عنها عباءتها وخمارها وتلبسها رداء التمدن والتطور، هذا يراها مقدسةً لايجوز المساس بها لأنها لسان القرآن وذاك يراها متخلفة عن ركب العصر والزمان، وزاد طينها بلة حين سبقنا أهل الغرب بالعلوم والصناعة ولم نجد في لغتنا ما يوازيها من مفردات ويكافئها من كلمات لإنها أشياء مستحدثة غير موجودة فلم تحط بها اللغة ذلك أن اللغة معنية بالموجود من الاشياء فصرنا نُعرّب أدواتِهم ونُسمّي آلاتهم مضطرين لا بَطرين كي تتوافق الاسماء على المسميات فزادت في لغتنا غربة الالفاظ ووحشة المعاني والانماط. وهذا ما دفع حافظ ابراهيم لقول:فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلةٍوتَـنْـسِـيـقِ أسـمـاءٍ لـمُـخْـتـرَعــاتِ أنا البحر في أحشائه الدر كامنٌفهل سألوا الغواص عن صدفاتي ثم جاء من اهلِها من أعان عليها فأطلق فيها القواعد الزائفة والاقوال الباطلة حتى قال بعض اهل الصحافة "خطأ لغوي شائع خير من صواب ضائع" وهذا معنى فاسد بفساد اصله. ثم قالوا "الخطأ المشهور أفضل من الصحيح المهجور" وهذا ينافي المروءة والخلق قبل اللغة فعاثوا في ارجائها لعباً وتأثيماً حتى لتكاد تُحسّ انهم اخترعوا لغة أخرى تلبس وجه العربية ولكنها ليست هي، فعمَّ الغلط وشاع اللبس وتداخلت المعاني والدلالات وضاعت المقاصد والوجهات ولولا ان الله من علياء قدرته وعظيم سلطانه وعد هذه اللغة -ووعده الحق- وكرّمها بالحفظ الى اليوم المعلوم حين أنزل كلامَه العظيم بلفظها ولسانها وقرآنه الكريم بضادها وبيانها يردده اهله آناء الليل وأطراف النهار بالحفظ والدرس لذهبت ودرست، ثم سخّر لها من تناشد بها من شعرائها وتنادى من خطبائها جاهدين مجاهدين لاعادة رونقها واستعادة ماء وجهها لخبت واضمحلت ولماتت واندثرت أمام العاتيات من موجات العُجُمات والقوي من ضربات مطارق اللهجات ولاصبحت أثراَ بعد عين ولو كان لسيبويه في زماننا بعثٌ وظهور لبكاها دماً ولفضل الموت والبلى على حياة بلا لغة وفصاحة. أما الأنكى من دخول الاعجمية الى العربية هو اللحن في اللفظ والكسر بالكلام وأول اللحن كان من الأعاجم ولما لم يكن الأعجمي يحس بالدلالة ولا يشعر بالمعنى لم يشعر حينها بأهمية الإعراب ولم يشعر ايضاً بخطيئة اللحن. فقد كان العرب أشد استنكاراً لزيغ الإعراب منهم لخلاف اللغة، فقد ينطق العربي بالدخيل والمولَّد ولكنه لا ينطق باللحن وأن حديث النبي ﷺ "أن رجلًا لحَنَ بحضرته فقال: أرشدوا أخاكم فقد ضل" دليل على ان اللحن خطأ كبير حتى قارنه النبي بالضلال (١) ولو كان اللحن معروفًا في العرب قبل ذلك العهد، مستقِرَّ الأسباب التي يكون عنها، لجاءت عبارة الحديث على غير هذا الوجه، لأن الضلال خطأ كبير، والإرشاد صواب أكبر منه في معنى التضاد. بل إن عبارة الحديث تكاد تنطق بأن ذلك اللحن كان أول لحن سَمِعَه أفصحُ العرب ﷺ. وبعد ان أنزِل القرآن ليقوّم السنة الذين يؤمنون به جاء الذين دخلوا به باعجميتهم الى العربية وذلك أول ما اخْتَبَلَ من كلام العرب ولم يكن منه قبل الإسلام شيء البتة وان دخول اللحن الى العربية قد جاء بعد دخول غير العرب الى الاسلام (٢) وزيادة على كل ما تقدم ان العرب اليوم -وهم اهل اللغة- أمسوا يفضّلون المحكي من الشعر على فصيحه وهذا أمر بالغ الخطورة مع بداهته؛ فأما خطورته فتكمن في الانتشار السريع لاستحسان الناس له وميولهم اليه وهذا سيغلّب الحرف الأعجمي على العربي واللفظ الدخيل على الأصل، وأما بداهته ففي عسر الحفظ للشعر العربي لصعوبة فهمه على الناس بقسوة المنهج وضعف التعليم، ولأن الفطرة تدفع ابن آدم لأن يسلك الأسهل في الادراك والأيسر في الفهم ذهب الناس الى المحكي في استحضار الأثر والاستشهاد بالحكمة فزادوا ابتعادا عن اللغة. أما ما يسرّ الخاطر ويبعث في النفس الأمل انها بعد أن حملتها افئدة السائرين والْسٍنةُ المتكلمين الى مشارق الأرض ومغاربها وجابَ بضادها من أحبها لحب القرآن والحديث والشعر صارت اللغةَ الاشهر بعد اللغة الأم في بلاد الكرد والترك وشبه جزيرة الهند وبلاد فارس وبعض شعوب إفريقية يتغنون بها ويكتبون بحرفها وهناك مِن هؤلاء الأقوام مَن فصاحته تضاهي فصاحة العربي ومخارج حروفه اصفى من لسان احدنا بل انهم يفخرون بها ويتحدثون بها على منابرهم ومنهم من تعدى بها ذلك الى كتابة الشعر. والعرب فقط هم اصحاب العربية المكلفون بها وبحملها والحفاظ عليها والذود عنها وليس غيرهم من الأقوام، ذلك أن العربية عِرْقٌ وليس لسان والعربي ليس من تكلّم بها فحسب، بل من سرت دماء العربية في عروقه ونبض بها قلبه ففهم معناها وأدرك جرسها وتلقف لفظها وفحواها وبلغ مقاصدها ودلالاتها وهي أمانة عظيمة بأعناقهم لا يبرّأهم منها بُعْدٌ عن ديارها ولا تخلّقٌ بأخلاقِ اهلٍ غيرِ أهلها فالمتكلمون بها خلق كثير ومن يحاسب عليها قليل، فلهم ان يحملوا الأمانة فيكونوا أهلاً لها ولهم أن يتركوها فيقعوا في خطيئتها ويبوؤا بإثمها ويقفوا في قفص الاتهام ودائرة الإدانة ولهم في ذلك الاختيار وتحمل ورز القرار. ١- ابن جني (الخصائص)٢- مصطفى صادق الرافعي (تاريخ آداب العرب)
مشاركة :