حسان الحديثي كما ان بعض الزيادة في اللغة ضربٌ من ضروبها فان بعض الحذف ضربٌ ونوع من انواعها ايضاً، والحذف هو رفع مفردة -او أكثر- من الكلام لدلالة المعنى عليها. وحذفُ المعلوم من الكلام ضرب قديم في لغة العرب وبابٌ من ابواب البلاغة عندهم ولكن يجب ان نعلم ان هذا الحذف يفيد "المعلوم" من المعنى حصراً ، والمقصود بـ "المعلوم" اي الذي لا شك في ادراكه ولا يقبل الاختلاف عليه في الفهم. وقد قال عنه عبدالقادر الجرجاني -مُعرِّفاً- في كتابه دلائل الإعجاز: هو بابٌ دقيقُ المسلك لطيفُ المأخذ، عجيبُ الأمر شبيه بالسحر؛ فإنك -والكلام للجرجاني- ترى به ترك الذِكْر أفصح من الذِكْر، والصمت عن الإفادة أزْيَد للإفادة، وتجدك أنطقَ ما تكون إذا لم تنطقْ، وأتمَّ ما تكون بياناً إذا لم تُبِنْ. انتهى كلام الجرجاني و الجرجاني في تعريفه هذا قد بلغ الغاية التي ليس بعدها شيء يستحق الزيادة في التعريف، حتى انني اخال انه لو زادَ على كلامه شيئاً لأنقص في المعنى وقصّر في الفهم. ومعنى قوله "ترك الذِكَرِ أفصح من الذِكْر" يعني ان الحذف واجبٌ في موضعه وتركُُه -عندما يتطلبه القول- هو وهَنٌ للقول وربما دخل ايضاً في باب العِيِّ، والعِيُّ هو عدمُ اهتداء المتكلم للغاية التي يريد من القول فتراه يُنقص في الشرح ويزيد دون ان يدرك هدفَه ويكون ذلك عندما تُغلَق عليه طرقُ الايجاز والاختصار في الوصول الى المعنى. وقد ورد هذا النوع من البلاغة في كلام العرب كما ورد في القرآن الكريم ايضاً في مواضع عدة كقول ربنا:أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. والبشرى هي "الجنّة" وإنما حُذفت لدلالة معنى "البُشرى" عليها فاصبحت أمراً مفهوماً، وصار تقدير معناها معلوماً، كذلك في قوله تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا. اي: يأخذ كل سفينة "سليمةٍ من الأذى صالحةٍ للركوب" اذ لا نفع و لا فائدة في السفينة التي فيها خرقٌ او عيبٌ وقد حُذف كل ذلك لان سياق الكلام دالٌّ على المعنى وذِكْرُ المحذوف هنا لا يزيد من المعنى. والزيادة في الكلام بلا زيادة في المعنى هي انقاصٌ ووهَنٌ له. وكما في قوله تعالى ايضاً: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ. و "أكبر" على وزن "أفعل" وتسمى أفعل التفضيل و"أفعل" التفضيل في اللغة تحتاج عادةً الى بيان المفضول منه لتمام المعنى كقولنا: عمروٌ أذكى من زيد، والعسلٌ أَحلى من السكر، ولكن حذفه في الآية لم يغير شيئاً لانه بائن المعنى واضح الدلالة وتقديره: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ "من اي ذكر سواه" وجاء ايضاً في أفعل التفضيل قوله تعالى:وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُأي أكبر"من الجنان كلها" وهذا يأتي في باب تعظيم رضوان الله على عبده. وقد صدق من قال في باب الحذف : رُبَّ حذفٍ هو قلادة الجيد وقاعدة التجويد، وقد ورد هذا الاسلوب البلاغي في المحكم العزيز في مواطن كثيرة كما أسلفنا وفي اشكال مختلفة ايضاً، وورد ايضاً في الشعر العربي كقول الشاعر: ومَنْ يَكُ أمْسَى في المَدِينةِ رَحْلُه ... فإنِّي وقَـيَّـارٌ بِـهـا لَـغَـرِيبُ وقيَّار اسم فرسِه، والاصل انه أراد: فإني لغريبٌ وقيّارٌ غريب، والحذف هنا واجبٌ لان السياق دالٌّ على المحذوف. ولعل قائلاً يقول لعل الحذف هذا موجود في محكم الكتاب والشعر ولا نجده في المنثور من كلام العرب وينبغي ان يكون موجوداً في كل كلامهم شعراً ونثراً، وهذا صحيح، ولأننا لم نحصل على المنثور من كلام العرب كالخطب والرسائل كحصولنا على الشعر، عزّ الاستدلال عليه وقد بحثت عنه كثيرا حتى وجدت حديثاً شريفاً يدل عليه: عن انس ابن مالك رضي الله عنه انه قال: لمّا كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأيدي حتى أنْكرْنا قلوبَنا، وفيه حذفين:الاول قوله: "وما نفضنا عن رسول الله الايدي" يقصد "من التراب" يوم وفاته صلى الله عليه وسلم.اما الثاني ففي قوله "انكرنا قلوبَنا" وهو من أجمل الحذف وتقديره: أنكرنا قلوبنا "انها لم تتفطر حزناً وكمداً عليه" صلى الله عليه وسلم.....
مشاركة :