الحوثيون ليسوا في نهاية المطاف سوى أداة من الأدوات الايرانية في المنطقة، لكنهم كشفوا عن قدرة كبيرة على المناورة سياسيا وعسكريا. في النهاية من الذي سيتحكّم بالحديدة مدينة وميناء وهل صحيح ان الحوثيين (انصار الله) صاروا خارج المدينة وسيفقدون سيطرتهم على الميناء لمصلحة إدارة جديدة تشرف عليها الامم المتحدة والسلطة المحلّية؟ هذا هو السؤال الكبير الذي يفرض نفسه في ضوء الاتفاق الذي امكن التوصل اليه في ستوكهولم بين "الشرعية" اليمنية والحوثيين. لا شكّ ان الاتفاق الذي رعته الامم المتحدة عبر الأمين العام أنطونيو غوتيريش ومبعوثه الى اليمن مارتن غريفيث يثير ارتياحا نظرا الى انه يوقف القتال في المدينة ومحيطها. مثل هذا التطور يساعد في تجنيب اليمن مزيدا من الكوارث، خصوصا على الصعيد الإنساني. كان مهمّا وقف القتال، اقلّه في الحديدة. لكن يبقى هل يمكن البناء على الاتفاق وصولا الى حل سياسي شامل ينقذ اليمن واليمنيين من البؤس والمرض والجوع. الى الآن، يظلْ الاتفاق مجرّد هدنة. بعد الهدنة، يخشى عودة القتال كي يتبيّن مرّة أخرى ان الحوثيين مارسوا كعادتهم لعبة المناورات السياسية التي لا هدف منها سوى كسب الوقت. هذا ما فعلوه في الماضي وهذا ما يبدو انّهم يفعلونه الآن بعدما اخذوا من الامم المتحدة ما يسمح لهم بان يكونوا "الشرعية الأخرى". بات يمكن القول حاليا ان الحوثيين قبضوا سلفا ثمن انسحابهم من الحديدة، بغض النظر هل الانسحاب شكلي او حقيقي. ساوت الامم المتحدة التي حضر امينها العام أنطونيو غوتيريش توقيع الاتفاق المتعلّق بالحديدة، بين "انصار الله" ووفد "الشرعية" اليمنية الذي كان على رأسه وزير الخارجية المعترف به عربيا ودوليا. هذا نجاح كبير لمجموعة يمنية تابعة مباشرة للقرار الايراني وتعتبر جزءا لا يتجزّأ من المشروع التوسعي الذي تنفذه طهران خطوة خطوة منذ ولادة "الجمهورية الإسلامية" قبل اربعين عاما تقريبا. يمكن لمثل هذا الاعتراف بشرعية الحوثيين والمساواة بينهم وبين "الشرعية" اليمنية التي على رأسها عبد ربّه منصور هادي ان تكون له ابعاد في غاية الخطورة. يعود ذلك الى ان مثل هذا الاعتراف هو اعتراف بسلطة الامر الواقع التي فرضها الحوثيون في صنعاء ابتداء من يوم الواحد والعشرين من أيلول – سبتمبر 2014. جاءت الامم المتحدة مدعومة من وزير الخارجية البريطاني جريمي هانت لتثبيت شرعية "انصار الله" بصفة كونهم يمثلون كلّ الشمال اليمني. وجد هانت الوقت ليذهب الى ستوكهولم على الرغم من الوضع الداخلي في بريطانيا حيث تواجه رئيسة الوزراء تيريزا ماي مجموعة من الازمات ناجمة عن فشلها في تمرير اتفاق "بريكست" في مجلس العموم. يعتبر مجيء هانت الى ستوكهولم بمثابة دليل على مدى الاهتمام البريطاني بالحديدة ومينائها في وقت تسعى بريطانيا الى استعادة وجودها في منطقة البحر الأحمر. ما لعب دورا في اقناع الحوثيين بالانسحاب، كان الضغط العسكري الذي مارسه التحالف العربي في الحديدة ومحيطها. كان هناك استهداف حقيقي من طائرات دول التحالف لمواقع "انصار الله" خارج الحديدة. اجبرهم ذلك على الارتداد في اتجاه المدينة والاحتماء بسكانها المسالمين أصلا. لكنّ المستغرب كان ذلك الإصرار لدى الامم المتحدة ومبعوثها على تفادي أيّ حسم من ايّ نوع لمعركة الحديدة. هل صحيح ان "الشرعية" كانت عاجزة عن الحسم، ام وراء الاكمة ما وراءها وان المطلوب في نهاية المطاف ان يكون لبريطانيا وجود في الحديدة عن طريق الامم المتحدة؟ في كلّ الأحوال، يبدو الحوثيون المستفيد الاوّل من اتفاق الحديدة، خصوصا بعد تكريس الامم المتحدة لأمر واقع في اليمن وحصر مشاورات ستوكهولم بهم وبـ"الشرعية. توجوا بذلك مسيرة طويلة بدأت بتنظيم "الشباب المؤمن" الذي رعاه في البداية علي عبدالله صالح الذي أراد خلق توازن جديد في اليمن بعد انتصاره في حرب الانفصال صيف العام 1994 وصعود نجم الاخوان المسلمين الذين لعبوا دورا أساسيا في القضاء على الحزب الاشتراكي الشريك في الوحدة اليمنية عام 1990. من الضروري في الظروف الراهنة التذكير بانّ علي عبدالله صالح اصطدم بالحوثيين في مرحلة معيّنة بعدما اكتشف في العام 2003 انّهم صاروا عند ايران كلّيا واعتمدوا الصرخة التي تكرّس انتقالهم الى لعب دور الأداة في المشروع الذي تعمل من اجله تلك الدولة. كانت الصرخة التي بدأ يطلقها حوثيون تسللوا بين المصلين في مساجد صنعاء وغيرها: "الموت لاميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للاسلام". خاض علي عبدالله صالح ست حروب مع الحوثيين بين 2004 و2010. عندما لم يحسم علي عبدالله صالح الامر مع الحوثيين عسكريا، علما انّه كان يستطيع ذلك في احدى المرات، حسب ما يقول احد قادته العسكريين البارزين، لم يفوت هؤلاء فرصة لاستغلال كلّ حدث تشهده اليمن. خرجوا منتصرين من الانقلاب الذي نفّذه الاخوان المسلمون في العام 2011 على الرئيس الراحل. اخرجوه من السلطة بعد تعرّضه لمحاولة اغتيال في حزيران – يونيو 2011. بتحييد علي عبدالله صالح وخروجه من الرئاسة، لم يعد هناك من يستطيع التصدي لهم عسكريا في اليمن. قضوا شيئا فشيئا على آل الأحمر زعماء قبيلة حاشد في محافظة عمران. استولوا على صنعاء فيما كانت "الشرعية" مطمئنة الى طموحاتهم اذ وقعت معهم "اتفاق السلم والشراكة" برعاية الامم المتحدة بعيد دخولهم العاصمة. رعت الامم المتحدة في أيلول – سبتمبر 2014 الاتفاق الذي انقلب "انصار الله" عليه سريعا ووضعوا الرئيس الانتقالي في الإقامة الجبرية واجبروه على الاستقالة. ما لبث عبد ربّه منصور ان عاد عن الاستقالة بعد فراره من المكان الذي كان محتجزا فيه في صنعاء. لم يحترم الحوثيون في يوم من الايّام أي اتفاق وقعوه مع أي طرف. تظاهروا بتقاسم السلطة مع علي عبدالله صالح ثمّ اغتالوه في كانون الاوّل – ديسمبر 2017. ما الذي سيفعلونه الآن بانتصارهم الجديد الذي كرّسهم قوّة امر واقع في شمال اليمن، تماما مثلما انّ "حماس" قوّة امر واقع في غزّة، على الرغم من انّ الاتفاق الأخير سيخرجهم عسكريا من الحديدة؟ اذا نظرنا الى احداث الماضي القريب، نكتشف انّ "انصار الله" عرفوا كيف الاستفادة الى ابعد حدود من تسليم الحديدة التي يرجح ان يكون فيها وجود بريطاني قوي مستقبلا عبر "القبعات الزرق". لم يعد هناك ما يهدّد وجودهم في صنعاء وقسم من تعز وتحولوا الى جزء لا يتجزّأ من المعادلة اليمنية الجديدة التي تحظى بدعم دولي. على الرغم من ذلك كلّه، هناك اكثر من سؤال يتعلّق بمستقبل الحوثيين. الثابت ان الجواب عن أي من الأسئلة المطروحة ليس متوافرا الآن. سيتوافر الجواب متى علمنا ما ستكون نتيجة المواجهة الاميركية – الايرانية وهل إدارة دونالد ترامب مستعدة للذهاب الى النهاية في هذه المواجهة. الحوثيون ليسوا في نهاية المطاف سوى أداة من الأدوات الايرانية في المنطقة. في كلّ ما فعلوه الى الآن، كشفوا قدرة كبيرة على المناورة سياسيا وعسكريا. تبدو نهاية مناوراتهم مرتبطة الى ابعد حدود، اكثر من ايّ وقت، بمستقبل ايران لا اكثر ولا اقل.
مشاركة :