يخطئ من يعتقد ان الحوثيين (انصار الله) في اليمن تغيّروا. يخطئ اكثر من يتخيّل ان في استطاعتهم ان يتغيّروا او انّه يمكن ان يتغيّروا في غياب تبدّل حقيقي وجذري في موازين القوى العسكرية على الأرض. تؤكد ذلك المحاولات الأخيرة التي قاموا بها من اجل اطلاق صواريخ من صنعاء في اتجاه الأراضي السعودية مستهدفين مواقع مدنية على وجه الخصوص. كشفت هذه الصواريخ مدى عدوانية الحوثيين من جهة وصدق الذين اكّدوا منذ البداية انّ ليس في الإمكان الوثوق بهم من جهة اخرى. المسألة، في نهاية المطاف، في غاية البساطة. المسألة ان القرار الحوثي قرار إيراني ولا شيء آخر غير ذلك، تماماً مثل قرار «حزب الله» في لبنان. توجّب على الحزب في مرحلة معيّنة المشاركة المباشرة في الحرب المستمرّة على الشعب السوري منذ العام 2011. لبّى الطلب الايراني من دون تردّد. ليس «حزب الله» سوى لواء في «الحرس الثوري» الايراني، عناصره لبنانية. وليس «انصار الله»، الذين يمتلكون علاقة قويّة الى ابعد حدود بـ«حزب الله»، سوى لواء آخر في «الحرس الثوري»، عناصره يمنية. هذه حال «انصار الله» الذين تظاهروا في مرحلة معيّنة بانّهم مستاؤون من القرار الايراني بضرب منشآت «أرامكو» السعودية في سبتمبر - سبتمبر الماضي عن طريق صواريخ انطلقت من الأراضي الايرانية. لم يكن الاستياء، الظاهري، من ضرب ايران لمنشآت سعودية، بل من الباس طهران، الحوثيين عملية اطلاق الصواريخ وجعلهم يتبنونها. تبيّن مع مرور الوقت ان لا استياء من ايّ نوع. هناك فقط سيناريو متفق عليه بين الحوثيين والإيرانيين من اجل تمكين «انصار الله» من التفاوض مع السعودية بهدف الحصول على مساعدات، هم في حاجة شديدة اليها، في ظلّ تدهور الوضع الاقتصادي الايراني بسبب العقوبات الاقتصادية الأميركية. ليس صدفة انّ تأتي المحاولات الحوثية الأخيرة لاطلاق صواريخ من صنعاء في اتجاه المملكة مع زيارة وزير الخارجية الاميركي مايك بومبيو للرياض. في تلك الزيارة التي قابل فيها بومبيو الملك سلمان، كما اجرى محادثات مع وليّ العهد الأمير محمّد بن سلمان حصلت نقلة نوعية على صعيد التقارب السعودي - الاميركي في اتجاه موقف مشترك اكثر عمقا وثباتا في مواجهة الخطر الايراني بكلّ ابعاده. كشفت الزيارة مدى استيعاب الإدارة الأميركية الحالية لخطورة المشروع التوسّعي الايراني من جهة ومدى استعدادها للتصدّي له. جاءت تصفية قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الايراني لتظهر ان الإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترامب تعرف تماما انّ لدى الولايات المتّحدة حسابات قديمة في حاجة الى تصفية مع «الجمهورية الإسلامية». حسابات تعود الى العام 1979 عندما احتجزت السلطات الايرانية 52 ديبلوماسياً اميركياً، كانوا يعملون في سفارة طهران، لمدّة 444 يوما. هناك تذكير أميركي دائم باحتجاز الديبلوماسيين هذه الايّام. هذا ما فعله ترامب لدى تهديده بالرد على أي عدوان إيراني يستهدف الاميركيين عن طريق ضرب 52 هدفاً في الداخل الايراني. يرمز كلّ هدف من هذه الأهداف الى احد الديبلوماسيين الاميركيين الذين احتجزتهم ايران... جاء اطلاق الصواريخ من صنعاء بمثابة ردّ إيراني على زيارة بومبيو والنتائج التي يبدو انّها اسفرت عنها. ارادت ايران توجيه رسالة فحواها انّ لديها قاعدة في اليمن وان الحوثيين ليسوا سوى أداة من ادواتها.تكفي مراجعة سريعة لكلّ الاتفاقات التي توصّل اليها الحوثيون مع خصومهم في السنوات الست الأخيرة، أي منذ وضع يدهم على صنعاء في 21 سبتمبر - سبتمبر 2014، كي لا تعود هناك أي أوهام في شأن كيفية التعاطي معهم واللغة التي يفهمونها. تخلّل المرحلة التي سبقت السيطرة الحوثية على صنعاء تمدّداً حوثياً في اتجاه محافظة عمران انطلاقاً من صعدة. في سياق هذا التمدّد، استطاع «انصار الله» تصفية وجود آل الأحمر، أبناء الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر (توفي في العام 2007)، زعماء قبيلة حاشد. كان ذلك تطهيراً لعمران من نفوذ حزب التجمّع اليمني للاصلاح الذي تحوّل بعد وفاة الشيخ عبدالله حزباً يسيطر عليه الاخوان المسلمون كلّياً.طمأنت خطوات الحوثيين الرئيس الانتقالي عبد ربّه منصور هادي الذي لم يتردّد في التوصّل الى تفاهمات مع «انصار الله» في وقت كانوا في طريقهم الى صنعاء. اخذوا بدربهم مواقع مهمّة كان يسيطر عليها اللواء 310 بقيادة العميد حميد القشيبي، المحسوب بدوره على الاخوان وعلى اللواء علي محسن صالح الأحمر نائب رئيس الجمهورية حالياً، وهو من أقرباء علي عبدالله صالح واحد الذين انقلبوا عليه في 2011. فتح التخلّص من اللواء 310 أبواب صنعاء امام الحوثيين الذين نسوا فجأة كل التفاهمات مع منصور هادي الذي أراد ممارسة لعبة التوازنات مع الاخوان. ما ان وقّع الحوثيون في صنعاء «اتفاق السلم والشراكة» برعاية الامم المتحدة ممثلة بجمال بنعمر، حتّى انقلبوا على الرئيس الانتقالي واجبروه على الاستقالة بعد وضعه في الإقامة الجبرية. ما لبث عبد ربّه ان استطاع الفرار من صنعاء الى عدن في فبراير - فبراير 2015. يمكن الحديث طويلاً عن الاخذ والردّ بين الحوثيين في مرحلة ما بعد «اتفاق السلم والشراكة» الذي لم يكن له علاقة لا بالسلم ولا بالشراكة من جهة، وعلي صالح الذي ائتمنهم من دون ان يأتنمهم من جهة اخرى. لكن الثابت في كلّ مرحلة من المراحل التي تلت يوم 21 سبتمبر - سبتمبر 2014 انّ الحوثيين طرف يمتلك حساباته الايرانية. كلّ ما عدا ذلك مضيعة للوقت لا اكثر وتفاصيل يمكن التوقف عندها للتأكد فقط من امر واحد. هذا الامر هو ان لا فائدة من أي حوار مع الحوثيين على الرغم من انّه لا يمكن تجاهل انّهم جزء من المعادلة اليمنية وان لا مجال لتجاهلهم متى باتت الأجواء جاهزة لتسوية ما على صعيد البلد ككلّ. لم يوقّع الحوثيون يوماً اتفاقاً والتزموا به. كان اتفاق ستوكهولم في أواخر 2018 من اجل كسب الوقت ليس الّا. نجحوا وقتذاك، مستخدمين مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة مارتن غريفيث في وقف المحاولة الجدية الوحيدة من اجل ابعادهم عن ميناء الحديدة الاستراتيجي. لا جديد على الأرض في اليمن حاليا. المأساة اليمنية مستمرّة. ضحيتها كلّ يمني، بما في ذلك اهل صنعاء الذين عليهم العيش في ظلّ نظام متخلّف لا يمتلك أي مشروع حضاري من ايّ نوع. كلّ الأبواب تبدو مغلقة امام ايّ تغيير حقيقي في صنعاء... ما دامت ايران موجودة فيها اكثر من أيّ وقت.
مشاركة :