يشير ألبرتو مانغويل صاحب “تاريخ القراءة” الذي حظي بشهرة عالمية واسعة إلى أن الفضول هو أساس المعرفة منذ نشأة الإنسانية. وهو يعتقد أنّ من بين الكلمات التي نتعلمها منذ النشأة الأولى كلمة لماذا. ومعنى ذلك أننا نرغب في أن نتعرف أكثر على العالم الغامض، المكتنف بالألغاز الذي وجدنا أنفسنا فيه من دون إرادتنا. كما نحن نريد أن نعرف كيف تعمل أشياء هذا العالم. ثم إننا نشعر بالحاجة إلى ربط علاقات مع آخرين بعد أن نكون قد نطقنا بأول زقزقاتنا وثغثغاتنا. ونحن لا ننقطع أبدا عن طرح مثل هذا السؤال. ونحن نعاين مبكرا أن هذا الفضول نادرا ما يُجَازَى بأجوبة مُرضية وذات معنى دقيق، وإنما هو يجازى برغبة تظل تكبر دائما في طرح أسئلة أخرى، وبمتعة في إثارة الجدل. ويكشف لنا التاريخ أن جميع المبدعين العظام سواء في الفكر، أم في الفن، أم في مختلف أشكال الآداب والعلوم، تميزوا بفضول معرفي لازمهم من البداية حتى النهاية. وقبل أن يكتب روائعه الشهيرة مثل “البخلاء”، و”كتاب الحيوان”، و”البيان والتبيين”، أمضى الجاحظ سنوات طويلة يقرأ وينسخ الوثائق النادرة في سوق الوراقين بالبصرة، ويستمع إلى حكايات الأعيان والبسطاء، والمقيمين والمرتحلين، فلم يكن يترك صغيرة أو كبيرة، ولا شاردة أو واردة إلاّ دوّنها واحتفظ بها. ولم يسمح المتنبي لنفسه بالقول بأنه يمسك بناصية الشعر، ويمتلك شوارد اللغة إلاّ بعد أن عاش متنقلا بين أعراب البوادي العربية مُستمعا إلى أشعارهم وأمثلتهم الحكيمة. وكان المفكر الفرنسي مونتاني يقول بأن معرفته تقوم على التجربة الميدانية وليس على الكتب وحدها. وهو يعتقد أن الإنسان يستعين بالخيال لكي يواجه مصاعب الحياة. لذلك فإن جل الاختراعات كانت متخيّلة في البداية. وقد يحتاج الإنسان إلى وقت طويل وإلى تجارب كثيرة يكون مآلها الفشل قبل أن يتوصل إلى تحقيق ما كان يدور في خياله. ولولا الفضول المعرفي لما اكتشف كريستوف كولومبس العالم الجديد، ولما طاف ماجلان حول الأرض، ولما ترك لنا ابن بطوطة أعجب أثر في الأسفار في تاريخنا الأدبي. ويقال أن سرفانتس قبل أن يكتب “دون كيخوته” كان يلتقط كل ورقة مكتوبة يراها في الشارع. ولكي يعد موادّ روايته الأخيرة “بوفار وبيكوشيه” التي منعه الموت من إنهائها، قرأ فلوبير المئات من الكتب في التاريخ، والجغرافيا، والفيزياء، والكيمياء، والرياضيات، والطب، وعلوم الزراعة وغيرها. وخلال السنوات التي أمضاها في محتشدات سيبيريا، التهم دستويفسكي الآلاف من الكتب في مجالات مختلفة، مُدونا في نفس الوقت قصص من كانوا يقاسمونه محنة السجن، وجلهم من عتاة اللصوص والمجرمين. وتكفي قراءة أعماله الكاملة ليتبين لنا أن بورخيس مكتبة كونية بالمعنى الحقيقي للكلمة. وقبل وفاته عن سن تناهز 87 عاما، شرع في تعلم اللغة العربية ليقرأ “ألف ليلة وليلة”. وتكشف لنا أعماله أن جيمس جويس كان متعمقا في الفلسفة، وفي تاريخ الأديان والأمم والحضارات، وفي العلوم الوضعيّة، وخبيرا بأسرار لغات عدة. أما الآن فقد انحسر الفضول المعرفي بمفهومه القديم. ولعل ذلك يعود إلى وسائل الاتصال الحديثة التي أصبحت تمطر الناس في كل لحظة بوابل من المعلومات موهمة إيّاهم أنهم أصبحوا محيطين بأسرار الكون بحيث لم يعد هناك جديد يثير الفضول. وفي البلدان المتقدمة والمتخلّفة، تحوّلت المدارس والجامعات إلى معسكرات لتكوين العمال المتخصصين في هذا المجال أو ذاك، عوض أن تكون فضاءات لطرح الأسئلة، وإذكاء الجدل. كما لم تعد تلك “الحدائق” التي يجول فيها المتسائلون الذين كان فرانسيس بايكون يُسمّيهم “دُعاة النور”.
مشاركة :