هل «الديمقراطية» مجرد «تفاصيل»؟

  • 12/19/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

عبد الحسين شعبان يقولون إن «الشيطان يكمن في التفاصيل»، وهذه الأخيرة معقّدة ومتشابكة، فحين أطيح بالدكتاتوريات بفعل العامل الخارجي: أفغانستان والعراق وتداخلات دولية وإقليمية بعد هبّة شعبية: ليبيا واليمن أو الحراك الشعبي المدني اللّاعنفي: تونس ومصر أو الملف المأساوي المفتوح: سوريا، قيل إن الطريق سيكون مفتوحاً للانتقال الديمقراطي، حتى أن هناك من بالغ حين اعتبر مجرد إطاحة الأنظمة السابقة يعني التوجه فوراً نحو الديمقراطية، وهناك من بشّرنا بتفاؤل مفرط أن الرخاء والكرامة الإنسانية واحترام الحقوق ستكون أولوية أساسية للأنظمة الجديدة.لكن التغيير الذي طال انتظاره جلب معه فوضى وعنفاً وإرهاباً، وزاد من منسوب التعصّب والتطرّف والغلو، ولاسيّما حين ارتفعت الموجة الإسلاموية إلى أقصى المستويات حتى بلغت منصّات الحكم، لدرجة أن مصطلح «الربيع العربي» أخذ يثير ردود فعل حادة، تجعله في دائرة الشك و«الشبهة»، بالإشارة إلى دور القوى الدولية المتنفّذة، وفي غمرة مثل هذا التشاؤم المحبط لا يتذكر البعض تضحيات شعوب هذه البلدان وتطلّعاتها للتغيير. لقد حمل التغيير معه صراعات دينية وطائفية ومذهبية وجهوية وسياسية وحزبية وقبلية، وأيقظ نعرات كانت نائمة، وزاد الأمر خطورة انتشار السلاح واستخدامه لدرجة تفشّى العنف واستفحل الإرهاب واستشرى الفساد المالي والإداري، ولاسيّما في ظلّ تعويم مرجعية الدولة أو تفتّت بعض مقوّماتها.كانت شعوب العديد من البلدان العربية والإسلامية تأمل تحسين أوضاعها الاقتصادية والمعاشية بعد إطاحة الأنظمة التي بدت مثل كابوس مطبق على صدورها، ولكن حين رحلت تلك الأنظمة لم يرحل معها الاستلاب والقهر، وزاد أحياناً بفعل ضعف الدولة وانتعاش قوى الإرهاب، وهوت «الوحدة الوطنية» حتى وإن كانت هذه «مفروضة» أو شكلانية في ظلّ غياب المواطنة الفاعلة، لكنها كانت صمام أمان للناس في تعايشهم بوطنهم، ومع ما سمّي ب «الديمقراطية»، حلّ التشتت والانقسام والعودة إلى مرحلة ما قبل الدولة، الأمر الذي أصاب الشعوب بخيبة أمل مريرة.ولعلّ الأكثر مفارقة كانت مواقف النخب السياسية التي صدّعت رؤوس الناس على مدى عقود من الزمان بالمبادئ والقيم، فإذا ب «الثورات» لا تطيح الدكتاتوريات فحسب، بل تُعرّي معارضاتها أيضاً (حكام اليوم)، وتكشف عوراتهم وأطماعهم وتنافسهم المحموم على النفوذ والمال واستعدادهم لتوظيف كل شيء في سبيل المصالح الخاصة والأنانية الضيّقة، وهكذا تم مقايضة تضحيات الناس وأحلامهم بالتغيير والرخاء، بالصراع على السلطة والاستماتة للظفر بها، وهكذا تصالحت مع أسوأ ما في الأنظمة السابقة، دون أن ترتقي إلى بعض حسناتها ومزاياها.لقد عمل «الحكام الجدد» على تشريع امتيازاتهم عبر البرلمانات أحياناً، مضفين صفة «الشرعية» عليها، وحصلوا على تعويضات مجزية «لنضالهم» وامتدت أيديهم إلى المال العام فعاثت بالبلاد فساداً، حتى إن دولاً مثل العراق وليبيا هي اليوم الأكثر فساداً في العالم، في حين أن ميزانياتها يمكن أن تكفي شعوب المشرق والمغرب.أتكون «الديمقراطية» لا تليق بشعوبنا ولو أننا لم نقاربها بعد، فتلك فقط بعض آلياتها ليس إلّا ؟ وكم كانت فرحة القوى المخلوعة كبيرة لمثل تلك النتائج، فقد ظلّت تسوّق فرضية عدم صلاح الديمقراطية لشعوبنا لتبرير سياسية الاستبداد والقمع السابقة. لكنْ ثمة جانب موضوعي لا بدّ من الإقرار به، فالثورات والتغييرات لم تأتِ بما هو أفضل، ويبرّر المعارضون السابقون وحكام اليوم أنهم اصطدموا بإرث ثقيل أعاقهم عن تحقيق المنجزات، وخصوصاً ما واجهوه من إرهاب «القاعدة» و«داعش»، لكن ذلك مجرد تبريرات للفشل الذريع الذي لا يريدون الاعتراف به، مدّعين أنه لولا وجودهم لكان الوضع أسوأ بكثير، وهل ثمة أسوأ من أنظمة المحاصصة والفساد المالي والإداري وتفشي العنف والإرهاب وسوء الأوضاع المعيشية والاقتصادية، وتدهور الخدمات التعليمية والصحية واستفحال الأمية والبطالة.لكن هل الدكتاتوريات أفضل من «الديمقراطيات» أم ثمة فارق كبير، فالأولى كانت مفروضة على الشعوب، أما حكام اليوم فهم من اختيارها أو هكذا يتبجحون، على الرغم من العزوف وتراجع المشاركة وانعدام الثقة، بغض النظر عن نتائج انتخابات تجري في ظلّ بعض الدساتير الملغومة وقوانين الانتخابات «المبرمجة» والنتائج التي تكاد تكون معروفة سلفاً، بفعل عمليات التزوير المفضوحة، وهي مداورة بين بضع مئات من السياسيين، وكأن الحياة أصبحت حكراً عليهم وأن شعوبهم أصيبت بالعقم.العيش الكريم هو ما تحتاج إليه الشعوب العربية، وعدم تحقق ذلك دفع أوساطاً شعبية تعبر عن جزعها وتبرّمها لدرجة اليأس من القدرة على التغيير بامتداحها نظام بن علي وصدام حسين وحسني مبارك ومعمر القذافي وعلي عبدالله صالح والملّا عمر، الذين كان التخلّص منهم أقرب إلى الحلم.drhussainshaban21@gmail.com

مشاركة :