يصور البعض - وخاصة في المعارضة - أن الديمقراطية (على الشاكلة التي يرونها) يمكن إنجازها دفعة واحدة بقرار سياسي، وفي اليوم التالي نصبح ديمقراطيين (هكذا!) ويصبح الدولة ديمقراطية، والمجتمع ديمقراطياً، وهم عندما يفعلون - وبغض النظر إن كانوا هم أنفسهم ديمقراطيين أو لا - يدخلون الناس والمجتمع في حالة من الوهم، عن طريق الايهام الديمقراطي. مع الديمقراطية الكاملة عصية على التحقق في البلاد العربية جميعها تقريبا، رغم كل الجهود التي بذلت من تحقيقها. ولكن يظل السؤال هنا هل المسؤول عن هذا الاستعصاء هي السلطة السياسية لوحدها أم المجتمع بأسره، في مقدمته مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات السياسية التي لا يبدو انها تساعد على انجاز التحول الديمقراطي بتلكؤها على تحمل مسؤوليتها واستعجالها الأمور وتبسيطها للأمر وكأنه معلق على قرار سياسي مجرد؟ هذا السؤال المركب حاول الإجابة عليه الباحث البحريني الدكتور باقر النجار في كتابه الديمقراطية العصية في الخليج العربي الحائز على جائزة الشيخ زايد للكتاب في مجال التنمية وبناء الدولة للعام 2009م، حيث لخص وجهة نظره في مقولة (الديمقراطية عصية عندنا وان كانت غير مستحيلة)، لان التحول الديمقراطي بتطلب تغييراً في ثقافة الدولة وآليات الدولة ولكنها تتطلب في ذات القدر تحولاً أساسياً في ثقافة المجتمع. وعند هذه النقطة، إذا كانت السلطة قد قدمت - في تفاعلها مع المجتمع السياسي ما ارتأته مناسبا من الناحيتين الدستورية والسياسية استناداً إلى ما أجمع عليه المواطنون في استفتاء شعبي واسع مع استعدادها للمراجعة المستمرة من اجل التطوير، فإنه من الطبيعي التوقف عند مسؤولية الجمعيات السياسية التي ترفع صوتها يوميا مطالبة بما تسميه (بديمقراطية حقيقة)، وبعضها لا تتمتع في تركيبتها واليات عملها باي التزام ديمقراطي، حيث نفس الأشخاص ونفس الجماعة التي عرفناها قبل 30 سنة ما تزال هي ذاتها في ذات المواقع، بما يجعلها أقرب إلى جماعات مغلقة على اصحابها أكثر منها جمعيات سياسية. الإشكالية الثانية أن القسم الأكثر تأثيراً من هذه الجمعيات، عندما يتحدثون عن الديمقراطية والدولة المدنية يعودون في فكرهم وفي قراراتهم ومواقفهم وبيناتهم ووثائقهم إلى المرجعيات المقدسة، بما يولد مفارقة، بين سلطة المقدس المطلق، وسلطة الزمني السياسي النسبي، وبما يجعل القرار السياسي والتشريعي الديمقراطي (الانتخاب أو الاستفتاء أو القانون) مقيداً بمباركة وموافقة أو عدم مباركة وموافقة الولي الفقيه او المرشد العام المقدس. والسؤال نفسه يمكن طرحه بصيغته الأخرى: أيهما أهم في المنظومة والهيكلية السياسية (الديمقراطية) في ظل هذه الرؤية (الديمقراطية): المنتخب ديمقراطياً أم المرجع المقدس؟؟ ولا شك أن الإجابة على مثل هذا السؤال تحيل إلى نفي الديمقراطية أو افراغها من محتواها، فإذا كان بعض المعارضين الذين يصفون أنفسهم بكونهم ديمقراطيين وطنيين، ما يزالون في عقائدهم الدينية يعتبرون الديمقراطية بدعة لا يجدر بنا الثقة بها أو اللجوء إليها الا للحصول على السلطة، والسيطرة على المجتمع، فتلك مشكلة تجعل من الديمقراطية عصية تماماً، حتى وان تحقق ما تنشده تلك الجماعات، لأننا سنكون حينها على شاكلة المثال الإيراني، عندما لم يتم استخدام الديمقراطية إلا كآليات شكلية للسيطرة على المجتمع والتحول تدريجياً إلى ديكتاتورية دينية - عسكرية يحكمها تحالف الفقهاء والحرس الثوري، أما ما بقي من الديمقراطية فهو مجرد هيكل عظمي بدون حياة لأنه يمنع التداول السلمي على السلطة، ويمنع أي حراك ديمقراطي مستقل عن سلطة وهيمنة الفقهاء، كما يتم تكفير وتخوين أي حركة خارج هذا الضبط العنيف، وفي ظل هكذا ديمقراطية يتم إعدام المعارضين واعتبارهم جواسيس وعملاء، ومنع التظاهر الحر وحتى الأنشطة الثقافية والفنية والسينمائية وغيرها.. الإشكالية الثالثة أن من أهم المسلمات لإقامة دولة مدنية ديمقراطية هي الحداثة والعلمانية اللتين تدخلان في تقاطع كامل مع الثيوقراطية، التي تعتبر الحقائق المنزلة لها الأولوية على العقل والفكر والحقائق العلمية، والتشريع يستند على نصوص مقدسة لا يمكن تغييره، كل ما فيها صالح لكل مكان وزمان وحقائقها مطلقة، والشعب يبقى تحت الوصاية الكاملة لرجال الدين، بما يقود إلى ديكتاتورية وطغيان واستعباد، فكل خلاف مع المقدسين يصبح كفراً وخروجاً عن الصراط المستقيم، وهذا هو الخطر الأكبر. ولذلك فإن الكلام عن ديمقراطية دينية هو نفاق لأنها غير ممكن، غير منطقي وغير واقعي، لأنه وعندما يصبح الشعب تحت سيطرة رجل الدين - السياسي، أو السياسي الذي يجعل من الدين هوية المواطنة، يتوقف الحديث عن الديمقراطية وتصبح الديمقراطية عصية تماماً، بل ومستحيلة، بهذا المعيار. في الخلاصة، لا بد من التأكيد إن الديمقراطية - كطموح وكأفق - قد أصبحت ضرورة ملحة لا يجادل في أهميتها اثنان، ولكن من الواضح ان القليل منا يعود بها بمفهومها الليبرالي إلى جذورها الصحيحة، وهي ان الديمقراطية لكي تنجح وتنتشر، لا بد لها من مدنية الدولة، بمعنى الفصل بين الدين والدولة على مستوى المؤسسات وعلى مستوى الأنظمة والقوانين، وقبل ذلك على مستوى الفكر، حيث لا يمكن الأخذ بالديمقراطية دون الأخذ بمدنية الدولة وعلمانيتها، فالممارسة الديمقراطية تعني ببساطة شديدة: المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار، وحتى تكون هذه المشاركة حقيقية وفاعلة، لا بد من توافر شرطين: المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات على أساس المواطنة بغض النظر عن الفوارق الدينية والعرقية والسياسية والجنسية، والثاني هو ضمان حرية الفرد الكاملة في التعبير والتنظيم والعمل السياسي، وذلك لان الدولة كيان مدني بالضرورة، وبهذا المعنى تكون ملكاً للجميع ومن أجل الجميع، كما أن للديمقراطية أبعاداً اجتماعية عدا أبعادها السياسية، إذا ما انعدمت تصبح مجرد هيكل عظمي صوري. همس ... لست أدري ما الذي يحدث لو أننا قررنا أن نقيم دولتنا على الإسلام، وقرر آخرون أن يقيموها على المسيحية، وقرر غيرهم أن يقيموها على البوذية، لسوف تكون هناك في كل مكان أعمال تنم عن التعصب وتحيلنا الى الاقتتال والتطرف الزعيم الراحل جمال عبدالناصر.
مشاركة :