في محاولة تستهدف مغايرة المألوف السائد في الكتابة النقدية قام الناقد الفرنسي بيير بايارد باستبدال أسماء مؤلفي الروايات الشهيرة بأسماء أخرى، متتبعا كيف ستكون مصائر الشخصيات لو كتبت من قبل مؤلف آخر غير مؤلفها الشخصي، فاستبدل هنري جيمس بمارسيل بروست، وفلوبير باستاندال والفيسلوف نيتشه بدوستويفسكي. ويبرر ما فعل بأن هذه الأعمال تمتاز بالأصالة وهذا المنحى يفيد النصوص بإبراز معان غير منتظرة، ما كانت لتظهر في ظروف أخرى. نقد التحسين فكرة تعديل النصوص إن جازت تسميتها، ترتبط في أحد أهدافها بالسعي لتحسين الأعمال الأدبية الفاشلة على حد قول بايارد نفسه، وهو ما أسماه “نقد التحسين“، أي إخضاع النصوص للتعديلات. وفي ذات الوقت تكون بمثابة الدفاع عن الحقّ في التخييل، بما أن اللا شعور يلعب دورا حاسما في تلقينا للأدب. ومن زاوية أخرى نقيضة تماما، قد لا يقبلها البعض باعتبارها تدخلا سافرا من قبل الناقد أو الأديب في أعمال لها شهرتها العظيمة، واكتسبت أهميتها حتى بأخطائها على نحو ما شاهدنا ثلاثة ألوان لعيني مدام بوفاري في رائعة غوستاف فلوبير “مدام بوفاري“. وبقدر جرأة الفكرة في تبديل أسماء المؤلفين بآخرين يختلفون عنهم على كافة المستويات، إلا أن نتائجها غاية في الأهمية كما يقول، حيث تدفع إلى “إعادة التفكير في حضورنا الذاتي ضمن الأعمال التي نلتقيها”. وإن كان ثمة هدف نبيل آخر يتمثّل في الحفاظ على حيوية النص وعلى الاهتمام بقراءته، والأهم هو عقد صلات جديدة من دون توقف بين الكُتّاب والنصوص. على غرار فكرة الفرنسي بيير بايارد، نتساءل: هل لنا أن نتخيّل أن يقوم كاتب آخر بكتابة أعمال محفوظ؟ وحتى لا تكون الفكرة مستهجنة في عالمنا العربي، نتجاوز هذا السؤال إلى آخر: ماذا لو قُدر لنجيب محفوظ نفسه أن يستكمل أدوار شخصيات رواياته المهمّة في الحياة، ويجعلها تستمر إلى لحظة الموت الحقيقي، لا الموت الروائي (حيث انتهاء الدور المرسوم من قبل الكاتب للشخصية)، ويغامر بهم فيشهد معهم التطوّرات التي حدثت للمكان الذي فارقته بعض الشخصيات؛ هربا من ذكرى الماضى، أو ينتقل بهم إلى أماكن أخرى لم يطأوها كأسوان وأسيوط وغيرهما من الأماكن؟ في اختبار لحالة التكيّف والمعايشة مع نقيض “المكان الأليف” الذي دعا إليه غاستون باشلار، فنرى هذه الشخصيات وهي تتعايش مع الواقع الجديد، المغاير للمكان الذي مارست فيه أحلام اليقظة وتشكّل فيه خيالها، وإن كانت محمّلة بندبات الماضي وجروحه الغائرة في النفس.في الحقيقة هذه فكرة لم تخطر، ربما، على بال محفوظ نفسه. فهو لم ينشغل بتتبع مصائر شخصيات رواياته، بقدر انشغاله بنسج عوالم جديدة وشخصيات جديدة على مدار رحلته الإبداعية. لكن بما أن الإبداع قائم على الخيال في الأصل، وأن الخيال هو محركه الأساسي، وربما هو الدافع الذي دفع الكاتب والناقد مصطفى بيومي إلى المغامرة واستدعاء شخصيات محفوظ لاستكمال أدوارها التي توقفت مع نهايات الرواية التي رسمها محفوظ نفسه. فكرة استدعاء شخصيات أو أحداث معينة، تدخل في باب المحاكاة أو إعادة الكتابة وهي أحد أنماط التناص وفق مصطلحات نظرية الأدب؛ حيث يعمل المؤلف على تناسل حكايات جديدة لحكايات قديمة، واستحضار شخصيات تجاوزت كونها شخصيات روائية، أي كائنات من ورق إلى شخصيات نمط. المعروف أن نجيب محفوظ أوقف شخصيات أعماله عند ذروة معينة، تارة امتثالا لنسق القيم الذي انتصر للشرف كما في حالة إحسان شحاتة التركي بطلة رواية “القاهرة الجديدة”، وكامل رؤبة لاظ بطل رواية “السراب”، وبعضها إيذانا بانتهاء زمن وبداية زمن جديد كما في حالة عيسى الدباغ بطل رواية “السمان والخريف”، ورؤوف علوان بطل رواية “اللص والكلاب”، وتارة ثالثة استجابة لتغييرات الداخل وما حلّ على الشخصية من رضا كما في حالة سهام محمد حامد علوان في “الباقي من الزمن ساعة”. الانفلات والصدام في مغامرة مصطفى بيومي “أما بعد” الصادرة عن سلسلة إبداعات قصصية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، نحن مع نص يكسر مفهوم الرواية الكلاسيكية، ويحلّق بها في آفاق ما بعد حداثية، فلا حكاية ممتدة، ولا شخصيات متطورة، وإنما حكايات منفصلة، محورها الأساسي شخصيات روائية تنسل من أعمال محفوظ السابقة، وتحضر بعد أن أعاد المؤلف إحياءها من جديد، ووضعها في سياق ما بعد زمن توقفها عند نجيب محفوظ، مختبرا صمودها في مواجهة ماض، وقدرتها على تخطيه كما فعلت الكثير من الشخصيات، أو انتظار فرصة التفشي من الماضي كما ذهبت بعض الشخصيات. يخرج المؤلف الشخصيات من الدائرة السردية إلى الواقع المعيش، فعباس الحلو يفكر في كتابة مسرحية عن أحداث الفتنة الطائفية لكن موت السادات يوقفه ويجعله يتحوّل إلى بائع في محمصة. وعندما يموت محمود دياب الكاتب المسرحي يُصاب بالصدمة، وبالمثل يتكيّف عيسى الدباغ مع المستجدات الجديدة، التي كانت بمثابة الانتصار له (بالإنابة) على نظام الثورة، وانتقاما إلهيا عما حدث له، بل هناك بعض الشخصيات ترتكن لواقعها وتعيش في استسلام للواقع الجديد كزينب وسمارة بهجت وكامل رؤبة لاظ؛ حيث سعوا جميعا للتكيف مع العالم الجديد الذي قذفهم فيه الروائي، وقد أسس لهم فيه حياة جديدة. ثمة شخصيات أخرى ظلت متشبّثة بماضيها ناقمة على الأوضاع كما حدث مع عيسى الدباغ الذي كان ناقما على الثورة، ووجد في هزيمة 67 شفاء لجراحه. نفس الشيء يتكرّر عند جاد أبوالعلاء في رواية “المرايا”، وزوجته لبنى ابنة الباشا، التي لا تنسى ما فعله ضباط يوليو مع أبيها الباشا. حتى أنها لا تطيق أحدا وتنسب كل نقيصة إلى ثورة يوليو. كما أن جاد نفسه في الروايات التي يكتبها أو تُكتب له، ينفّس عن كراهيته في حذر وخوف، ويقول مباهيا “إنه ليس موظفا في عزبة الضابط ولا يحتاج إليهم”. وثالثة ارتكنت إلى اليأس على نحو ما أُصيب علوان فواز محتشمي زايد، وانتهى به الأمر إلى دخوله السجن في جريمة عبثية تؤكد عبثية الواقع. نفس الحال نراه في شخصية سهام محمد حامد برهان، التي كانت نموذجا للتمرد على الدين وأعراف المجتمع وفكرة الأسرة ومنظومة القيم الأخلاقية بعلاقاتها الجنسية المتعددة، فينتهي بها الحال إلى الركون، وتتكالب عليها أشباح الوحدة والفراغ التي تقودها إلى عيادة طبيب نفسي، حتى أنها ترفض الإعارة إلى دولة خليجية، فوفقا لفلسفتها “ما الذي تُجديه الملايين في حياة خاوية المعنى!”. ورابعة متلوّنة لعبت على كل الحبال، كما في شخصية رؤوف علوان بعد أن التقط أنفاسه بمقتل سعيد مهران. يقدمه الراوي لنا وهو ينتقل مع المرحلة الجديدة، مرحلة الوحدة مع سوريا حيث يتبنى شعارات المرحلة ويسافر إلى سوريا ويكتب يوميات عن الوحدة من هناك. لا هم له إلا أن يحظى بكرسي رئاسة التحرير، وهو ما يتطلب منه مجهودا في الدفاع عن سياسات النظام. لا مجد له بالزواج وخلافه وإنما بالمحافظة على ما حقّقه من أرباح طيلة مسيرته، ومن ثم يعمد إلى كتابة التقارير للجهات الأمنية.يتألف النص من ثماني عشرة شخصية روائية من أعمال محفوظ، يعيد المؤلف أدوارها، ويستكمل لها مسيرتها في سياق جديد، حتى لحظة الوفاة التي تأتي في معظمها طبيعية، وإن كان سببها الوحدة التي عاشت فيها الشخصيات. وكأن المؤلف يقر داخليّا بأن موت الشخصية روائيا أفضل من هذا المصير البائس الذي انتهت إليه، فبعض الشخصيات لم يشعر أحد بوفاتها إلا بعد أن تسربت رائحتها. يستعيد الروائي شخصيات محفوظ وقد تبدّلت مواقعها وطبقتها وظروفها، حتى أنه يثير خيالنا بالتحولات التي حلّت على الشخصيات، فلك أن تتخيل بائع لحمة الرأس في حارة دعبس والد زينب دياب، وهو يرتدي بدلة حتى ولو كانت مستأجرة، كي يحضر حفل زفاف ابنته زينب بعد أن ضمّدت مواجعها، لتتزوج من زميلها مازن في العمل. وبالمثل صورة حميدة بطلة رواية زقاق المدق بعد أن تخلصت من القوّاد المستغل فرج إبراهيم والعاشق الساذج عباس الحلو. وقد نسج لها المؤلف حياة جديدة متخيلة. وفيها غادرت الزقاق، إلى شقة عماد الدين. لتكون القوّادة السابقة خريجة السجون واحدة من سيدات الأعمال والمجتمع، فتتبدل أحوالها وتعيش في دعة بما اكتسبته من أموال، بل تراها من الحصافة حيث تستغل الأجواء العامة، فتساير تقلبات السياسة والاقتصاد، فتنفتح مع الانفتاح وتوصف بالمليونيرة حميدة أو المرأة الخارقة. بالطبع هذه الحياة الجديدة مستمدة من ماضيها، فجذور الماضي ممتدة حيث مهنة القوادة. حياة جديدة بعيدة عن الاستغلال الذي كانت خاضعة له بحكم وصايا فرج وعباس الحلو: فتستيقظ هنا قرب العصر، ومع بداية الإظلام تستكمل زينتها وتغادر إلى مقر العمل في سيارة تقودها بلا عناء. تستقبل الزبائن وتجالسهم وتشرب معهم أحيانا، ثم “تعود إلى شقة عماد الدين حيث الرّاحة وهي منهكة مثل موظف كبير دؤوب”. اللافت أن المؤلف يحتفظ بالوعي الذي حمّله نجيب محفوظ لشخصياته، فلا يعبث في تاريخها الشخصي والوطني، أو حتى يسعى إلى تصحيحه بغرض نقد التحسين كما هو عند بيير بايارد، فحميدة تعمل في الدعارة، وإن كانت في طور جديد يناسب المرحلة الجديدة التي انتمت إليها، ووصفتها بأنها سيدة أعمال، وهناك مَن فقد إيمانه بالقضايا التي كانت تشغله كما فعلت زينب دياب، وانخرطت في دولاب العمل الحكومي، وإن كانت لم تسلم من إكراهات الواقع بعدما تجنّبت إكراهات السياسة، خاصة بعد رفضها عرض الزواج من مديرها. وبالمثل تطل علينا زهرة بطلة ميرامار الفتاة الريفية من جديد بعد رحلة عناء في البنسيون، وقد نالت حظا من الاستقرار، بل وتتزوج وتنجب طفلين تختار لهما اسميْن من أسماء البنسيون عامر ومنصور. لا يعمد المؤلف إلى ترتيب زمني وهو يستدعي شخصياته، كما جاء ترتيبها في سياق أعمال نجيب محفوظ، فمثلا يبدأ بكامل رؤبة لاظ، وينتهي بزهرة في ميرامار، أي لا يعمد إلى إظهار الشخصيات وفق ترتيب تاريخي تبعا لظهورها عند محفوظ. وإن كان ثمة ترابط قائم على مستوى التحولات لواقع مصر لا على مستوى الشخصيات، حيث تتقاطع التواريخ بين الماضي القريب في ما بينها. الشيء الآخر أن الحكايات يمكن قراءتها منفصلة ودون ترتيبها داخل العمل، دون أن يحدث خلل في البناء، وهو ما يعزز من كسر النص لمفهوم الرواية الكلاسيكي. يكشف التطوّر الذي سارت عليه الشخصات التطور الذي سار عليه المجتمع المصري حيث باب الهجرة للعمل في دول الخليج صار مفتوحا فيسافر إسماعيل الشيخ للعمل هناك، حيث الثراء والبترول ويكتفي بإرسال حوالة شهرية إلى عائلته، وإن كانت تنقطع أخباره وحوالاته. كما تسافر إلى ليبيا ريري ابنة عيسى الدباغ مع زوجها. وأيضا علي السيد يسافر إلى الخليج، وشفيق أخو سهام يسافر إلى السعودية ولا يعود إلا لزيارات خاطفة. كما تنبئ الرواية عن مصير مفجع لبعض شخصيات محفوظ على نحو ما انتهى الوضع بسمارة بهجت في المصحة النفسية، أو الانتحار كما في علوان فواز محتشمي. لا يفصل الروائي شخصياته في سياق أدوارها الجديدة عن العالم المحيط بها، فنرى انفعالاتها لما يحدث في الواقع كما رأينا عباس الحلو يكتب مسرحية مستلهما أحداث الفتنة الطائفية، وبالمثل طاهر عبيد الأرملاوي بطل قشتمر، فمع أنه زهد في الحياة السياسية إلا أنه يتابع أحداث الأمن المركزي من نافذته على مقهى قشتمر، بل لا يمنع نفسه من التأثر بغزو العراق. في الحقيقة صارت شخصيات روايات نجيب محفوظ أكثر من كونها شخصيات روائية، بل صارت علامات على تدهور قيم مجتمع كما حدث مع حميدة وإحسان تركي وسعيد مهران وزهرة وحليمة الكبش، وأخرى صارت نماذج دالة على قسوة الأنظمة كما في شخصية زينب دياب وإسماعيل الشيخ وحلمي حمادة وعيسى الدباغ.
مشاركة :