حرصت خلال الفترة الماضية على قراءة قانون التقاعد المبكر ومتابعة الندوات والتصريحات والمقالات التي تداولت ذات القانون، حتى أتمكن من استيعاب الموضوع بأبعاده المتعددة لأهميته السياسية والاجتماعية. وعليه، ثبت لدي وجود منظورين أساسيين في تداول القانون، أحدهما سياسي والآخر فني. والفني يمكن فرزه الى قسمين رئيسين: الأول مرتبط بحساب الربح والخسارة من قبل المقبلين على التقاعد، والثاني متعلق بجميع الجوانب الأخرى، كمنهجية وبيئة إقرار القانون. في المنظور السياسي، لابد من ملاحظة مظاهر التنافس بين أقطاب في الدولة، حيث يسعى كل منهم إلى تعزيز نفوذه في مجلس الأمة. ومن بين تلك المظاهر، حملات تلميع النواب المتناغمين معهم، وتشويه الآخرين، كأسلوب للضغط عليهم، ولتقليل فرص نجاحهم في الانتخابات اللاحقة. وأيضا من بين تلك المظاهر، مساعيهم لحل المجلس واسقاطه شعبياً، من خلال افتعال أزمات سياسية، وطرح مشاريع ومطالبات شعبية من شأنها استنزاف الملاءة المالية للدولة، وهي ذات المنهجية التي اتبعت أيام الاحتجاجات والحراك في سنة 2011. المراد أن هناك مجاميع سياسية من المؤكد أنهم ينتقصون من أي إنجاز قد يحسب لصالح المجلس، أو لصالح نواب معينين، خصوصاً إذا كان الإنجاز يتضمن منح المواطنين حقوقا وامتيازات جديدة. وكذلك الراغبين بالترشح في الانتخابات المقبلة، العديد منهم يتبع ذات الموقف السياسي المتطرف. وهذا لا ينفي وجود عدد من المرشحين الموضوعيين المتميزين في نقدهم للمجلس وإخفاقاته، الملتزمين بالطرح المتزن المتوافق مع تخصصاتهم والمتسق مع خبراتهم.بالنسبة للقسم الأول في المنظور الفني، المرتبط بالمزايا التقاعدية المضافة والمسلوبة، فقد تشكلت لدي قناعة تامة بأن هناك توافقا نيابيا حكوميا على إقرار القانون، بصيغة تشجع شرائح من الموظفين القدامى على التقاعد الاختياري المبكر، خالية من أي تبعات سلبية على الموظفين والمتقاعدين، متضمنة مجموعة من المزايا التي ستتحملها خزينة الدولة، من دون إرهاقها. وخير شاهد على حسن النوايا في هذا التوافق البرلماني الحكومي، سرعة الاستجابة النيابية الحكومية للملاحظة المهمة التي أشار إليها الدكتور هشام الصالح، التي حذر فيها من احتمالية لجوء الحكومة، استناداً على قانون الخدمة المدنية، إلى إحالة الموظفين المستوفين لشروط التقاعد المبكر، إلى التقاعد بصورة إجبارية. باختصار، أدعو كل من يعتقد أن القانون المقترح سيئ أو ليس جيداً، إلى قراءة مقال الباحث الاقتصادي محمد رمضان، المعنون «5 مغالطات تشوه فهم القانون المقترح للتقاعد المبكر».وأما في القسم الثاني من المنظور الفني، هناك مجموعة من التساؤلات التي قد يكون أبرزها تساؤلان. الأول كان حول سبب عدم اصرار المجلس على إقرار قانون التأمينات الاجتماعية الذي رفضته وردته الحكومة. فأنا أجد أن المسلك التوافقي، الذي اتبعه المجلس بلجوئه إلى اقتراح قانون بديل، يحقق العديد من الأهداف المنشودة في القانون المقترح السابق، هو مؤشر على رشد المجلس. خصوصاً إذا علمنا أن المقترح الحالي ليس نهاية المطاف بالنسبة لقانون التأمينات، وأن التوافق النيابي الحكومي يحتضن معالجة ملفات حقوقية قديمة جداً.وأما التساؤل الثاني، الخاص بسلامة وجودة الإجراءات التي اتبعت في إقرار مقترح قانون التقاعد المبكر في مداولته الأولى. فقد تبين لي أن إقرار القانون تم بالمنهجية السائدة في المجلس منذ عقود. حيث إن لجنة الشؤون المالية والاقتصادية، أصدرت تقريرها الأول بشأن القانون في 26 /11 /2018، والثاني في 9 /12 /2018، بعد أن تسلمت التعديلات المقدمة من السادة الأعضاء على القانون، أي قبل يومين من مناقشته في المجلس. من جهة أخرى، وضّح الدكتور عادل الخضاري، في الندوة التي عقدت في ديوان الكتاب والأكاديميين، أن الاقتراحات بقوانين لا تعرض على إدارة الفتوى والتشريع، إلا بعد إقرارها في المجلس. أي أن المجلس التزم باللائحة والإجراءات المعهودة في اقرار قانون التقاعد المبكر، الذي منح صفة الاستعجال، لأنه أقترح من قبل خمسة نواب.استمتعت بالندوة التي عقدت مساء السبت الماضي، في ديوان الكتاب والأكاديميين، حول قانون التقاعد المبكر، التي حاضر فيها الخبير الاكتواري الدكتور محمود بهبهاني والباحث الاقتصادي محمد رمضان. من بين الأمور المهمة التي تطرق اليها المحاضران، أشار الدكتور بهبهاني إلى ضرورة تعزيز شفافية المعلومات المتعلقة بالمركز المالي لمؤسسة التأمينات، كمدخل لإصلاح منظومة التأمينات الاجتماعية. ولقناعتي بأهمية دقة البيانات في اتخاذ القرارات، أضم صوتي إلى صوته، وأناشد المجلسين بالعمل سويا من أجل تعزيز الشفافية في المؤسسة... «اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه».abdnakhi@yahoo.com
مشاركة :