المسرح العالمي: بين التراجيدي والواقعي إلى السيكولوجي والتجريبي المغامر

  • 12/27/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

استرعت انتباهنا في العام 2018 الذي شارف على الانتهاء نماذج من المسرح العالمي، أولها “الآنسة جولي” للسويدي سترندبرغ، التي تضع وجها لوجه ثلاث شخصيات: جان وجولي، من جهة، وهما في قطيعة مع الأعراف والتقاليد، يسعيان للتعبير عن موقفهما المتمرد على القيم السائدة، والتخلص من الأحكام المسبقة عن الجنسين والتفاوت الاجتماعي، وفي الجهة المقابلة كريستين، وهي امرأة خاضعة لمشيئة غيرها، تتأرجح بين الحضور والغياب، متعلقة تعلقا مرَضيا بالوضع القائم. وقد حرص المخرج نيلس أوهلوند على إبراز تعقد تلك الشخصيات عبر فوضى ليلة حامية، انتهت إلى مأساة، وتصوير التقابل التقليدي بين المخدوم والخادم، مع تغيير الأدوار هذه المرة تغييرا تدفعه الرغبة، وانتهاك الرموز الاجتماعية، فكان وفيا لكاتب النص الذي قدم صورة قاتمة عن مفارقات النفس الإنسانية، وعنف النظام الاجتماعي. نقد جريء للتابوهات ثاني تلك النماذج “أسطورة حياة” للنمساوي ستيفان زفايغ، وهي دراما أخلاقية معاصرة كما وصفها مؤلفها، تتناول الحميمي والوجودي، وبناء الهوية وصعوبة تحرير القول، كما تعالج ثيمات أوسع، كالتفاوت الاجتماعي والاقتصادي، وتغذية بعض العائلات لمبدأ السرية، والصوت الرسمي المتسلط، كصدى للمعركة الطويلة التي خاضها ستيفان زفايغ ضد شتى أنواع الدكتاتوريات. ويقول كريستوف ليدون مخرج المسرحية “عندما وقعت عليها، انفتح أمام خيالي كمُخرج عالَمٌ من الانفعال والتأثر والتأمل: في مناخ عائلي متوتر يذكر بإبسن وفوكنر مجتمعين، وجدت هوس تريبليف في ‘النورس” وقوة توماس برنهارد”. وثالثها “لوحة تنفيذ” للبريطاني هوارد باركر الذي اعتاد كسر القواعد المعروفة، والتمرد على القيم الأخلاقية، والتركيز على الجريمة والغرائز والعواطف بلغة عنيفة مستفزة، ذات إحالات توراتية ومؤثرات شكسبيرية، ليأخذ المتفرج إلى عالم متخيل حيث عناصر الزمن والفضاء غائمة.وموضوعها طلب ملكي لرسامة كي تنجز لوحة تجسد معركة ليفانتي التي انتصر فيها المسيحيون على العثمانيين، فلم تجسد إلاّ ما كان حاضرا في مخيلتها، أي الدماء والأشلاء. والمؤلف الذي يسقط الماضي على الحاضر من خلال المزج بين الفترة المعاصرة والقرن السادس عشر، إنما يعزو رؤية الرسامة الواقعية للحرب إلى أشياء بالغة الخصوصية في طبع تلك المرأة، كحساسيتها المرهفة، مع شيء من الجنون الذي يسكن في العادة كل فنان حق، ويتخذ من موقفها المناقض لموقف السلطة مطية لنقد كل ما يحوم حول الأثر الفني، حيث لكل شيء ثمن. ورابعها “سيدتي مارغريت” للبرازيلي روبرتو أتايدي، ألفها حينما كانت البرازيل ترزح تحت نير الطغمة العسكرية، بطلتها معلّمة غريبة الأطوار جاءت تدرس تلاميذ الصف السابع الرياضيات وعلوم الإحياء ووظائف الأفعال والنواسخ، ولكن بطريقة تخالف الأساليب التربوية المعروفة، وتخالف حتى مضامين البرامج المقررة، ما يوحي بأن مضمون هذا المونولوغ كان تعرية للأنظمة الدكتاتورية في أميركا اللاتينية في ذلك الوقت؛ كل ذلك في كتابة عنيفة، تمتزج في أعطافها التراجيديا بالهزل، وتفضح بعض الحقائق الميتافيزيقية، وتحطم القواعد الاجتماعية، وتنتقد بجرأة التابوهات التي فرضتها الأخلاق وآداب السلوك. وخامسها “اثنا عشر رجلا غاضبا” للأميركي ريجينالد روز، دراما قضائية مسكونة بالتوتر، تبين أن عدم التسامح، والقناعات التي لا تستند إلى دليل، والأفكار المسبقة التي تجد جذورها في معيش الفرد وسيرورته، يمكن أن تودي ظلما بحياة إنسان، لو لم يوجد رجل مثل ديفيس الذي توصل بفضل ذكائه وإصراره وحسه الإنساني إلى إقناع المحلفين الآخرين بالعدول عن موقفهم وتبرئة المتهم. وفضلها أنها تطرح قضية كونية هي مكانة المؤسسة القضائية وقدرتها على العدل بين الناس، فهي قديمة قدم العالم، والناس على مر الأزمان يكادون ينزلونها منزلة العدالة الإلهية، والحال أنها تصيب، وتخطئ أيضا كما في هذه الحالة.وآخر تلك النماذج “سوف تتذكرني” للكندي فرانسوا أرشَمبو، التي لا تنظر إلى مرض ألزهايمر كقضاء محتوم، بل كإمكانية حياة جديدة. فالبطل إدوار يجد في هذا الداء وسيلة لكي يمحو من ذاكرته الواقع، ويجعله ترياقا ضد هيمنة الحاضر. وبفضل الفتاة بيرينيس، يستعيد حالة جديدة، وطريقة لتغيير حياته، وتجميلها إلى حدّ صار يفضلها على حياته السابقة، فقد استطاعت الفتاة رغم انشغالها الدائم بالسمارتفون أن تأخذه إلى جانب من ماضيه المنسي، وقد عمد المؤلف إلى وضع شخصيتي إدوار وبيرينيس جنبا إلى جنب ليخلق خيطا رفيعا يقربهما من بعضهما بعضا بشكل يعيد إلى إدوار ابتسامته، حتى وإن ظلت الذاكرة انتقائية، تتخير ما يحلو لها. روايات لا تموت توقفنا أيضا في العام 2018 عند نماذج من المسرح المستوحى من أعمال سردية معروفة، وهي في حد ذاتها ظاهرة يفسرها المخرج البولندي الشهير كريستيان لوبا بقدرة مبدعي العوالم السردية على التغلغل في الفضاءات المرعبة للحياة، ووضع غايات وتحديات تفتح أمام المقتبِس والمخرج حقل بحث أوسع من مجرد إخراج مشاريع مسرحية لمؤلفين دراميين، لأن ذلك البحث يتوجه في الغالب إلى الأسرار البشرية، ما يسمح بتقمص مسعى يوجد في ما وراء الحوار، حيث تنشأ روح التمثيل المستقلة. ومن بين تلك النصوص السردية التي تحولت إلى أعمال درامية ناجحة “خزي” لجون ماكسويل كوتزي، وكان حلل فيها العلاقات الجديدة بين أسياد الأمس، أي البيض، وأسياد اليوم، أي السود، كأغلبية آل إليها الحكم بصفة ديمقراطية، واختارت المناضل مانديلا رئيسا لها. ويصور كوتزي تلك العلاقات في لحظة فارقة بين عهدين، بين ميز عنصري جعله البيض نظاما أخضعوا له الأغلبية السوداء، وسياسة تتعثر في جعل المصالحة بين الطرفين واقعا ملموسا، فبعض السود يطلبون الثأر ممن أذاقوهم الثكل والويل، ويريدون كيل الصاع ولو بصاع مماثل، وبعض البيض ذاهلون أمام الوضع الجديد، لا يفهمون أنهم فقدوا امتيازاتهم وتفوقهم العرقي المزعوم، وصار ينظر إليهم كأقلية في بلاد تداولوا على حكمها ونهب خيراتها منذ منتصف القرن السابع عشر.و”المحاكمة” للتشيكي فرانز كافكا، وهي رواية تطرح عدة ثيمات مثل عبثية الوجود، ولاإنسانية العالم الحديث، والاضطهاد السياسي، والشمولية، والذاتية المستلبة. وفيها أيضا نقد للمنظومة القضائية، تلك الماكنة التي تقضي بلا دليل أحيانا، وتسحق الفرد بلا رحمة في الغالب، منظومة يستوي فيها قضاة ومحامون ورجال شرطة نخرهم الفساد والارتشاء والبيروقراطية. اختارها البولندي كريستيان لوبا ليحولها إلى مسرحية، لأن مصير جوزيف ك، وصراعه غير المتوازن ضد المجهول يشبهان إلى حدّ بعيد ما يدور من نقاش في الواقع البولندي الراهن، وهو نقاش تغلب عليه العبثية بالمعنى الفلسفي للكلمة، ولأن القضية تتجاوز النطاق المحلي لتشمل ما يجري الآن في أوروبا التي تشهد أزمة قيم، ولوبا أراد من مسرحة “محاكمة” كافكا التحذير مما يتهدد الشعوب من نعرات قومية وخطابات شعبوية تنذر بقيام الشمولية من جديد. إلى جانب “حرب السمندل” لكاتب تشيكي آخر هو كارل تشابيك، وهي رواية ديستوبية كتبت في ظرف متوتر، عقب الأزمة المالية العالمية سنة 1929، وصعود المخاطر في أوروبا الوسطى قبيل الحرب العالمية الثانية، ومدارها حول اتفاق بين ربان سفينة وشعب السمندل، تزود بموجبه الكائنات البحرية العملاقة الربان باللؤلؤ مقابل أسلحة تذود بها عن نفسها، ثم اتفاق ثان بين الربان ورجل أعمال جشع بعث شركة متعددة الجنسيات، سخرت تلك الكائنات بالقوة للمزيد من الإنتاج والمزيد من الربح. وما لبثت تلك الكائنات أن ضاقت ذرعا بذلك الاستغلال الفاحش، فأعلنت تمردها وثارت على البشر كافة، وراحت تدمر القارات لتخلق لنفسها مجالا حيويا. وقد يستعين المخرج بنص من القرن الثاني الميلادي هو “الحمار الذهبي” لأبوليوس المدوري، وهي رواية تأمّل في الوضع الإنساني بأسلوب هزلي، حيث يكتشف الفرد إنسانيته عبر السحر الأسود، في حكايات متداخلة تدور أحداثها في تيسّاليا، بلد الساحرات.وهي أيضا تعبير عن سعي الإنسان إلى المعرفة، مدفوعا بفضول سوف يضطره إلى الهروب من رتابة حياته اليومية إلى عالم السحر، الذي كشف له عن جحيم النفس الإنسانية، وأتاح له الوصول إلى الواقع المخفي وراء العالم المرئي المعتاد، فلما استعاد آدميته أدرك أنه بلغ يقين خلاصه، ولئن حافظ المخرج على روحها المرحة، فإنه حافظ أيضا على كون الرواية سردية تعليمية، كشفت للبطل قسوة البشر وحمقهم وسوء معاملتهم للحيوانات. أساطير قديمة بتقنيات حديثة توقفنا كذلك في العام 2018 عند إقبال بعض المخرجين على الأساطير القديمة، وإسقاطها على الحاضر، بتقنيات حديثة. تجلى ذلك في مسرحية “ظل” للنمساوية ألفريدا يلينيكه، وهي قراءة بعيون معاصرة لأسطورة أورفيوس الشاعر الفنان الذي يفشل في انتشال زوجته يوريديس من نيران الجحيم. فأورفيوس هنا هو مغني روك له حظوة لدى مراهقين يتعاطون مثله الخمر والمخدرات، ما جعله يتعالى على زوجته يوريديس، ويعاملها كشيء من أشياء بيته، رغم أنها كاتبة، فلما ماتت، رفضت مواصلة أداء دورها السابق، وفضلت الجحيم على العودة إلى زوجها. وقد عمدت المخرجة البريطانية كاتي ميتشيل إلى اقتفاء شخصياتها على وقع كتابة لاهثة تمزج بين المسرح والسينما، حيث قام فريق خاص بتصوير كل ما يجري وبثّه على شاشة تعتلي ركحا يتناوب عليه الممثلون والتقنيون.ويتجلى بصورة أبدع في “تراجيديات رومانية” للمخرج البلجيكي إيفو فان هوف، وهو عمل ضخم جمع ثلاثة أعمال لشكسبير هي “كوريولانوس” و”يوليوس قيصر” و”أنطونيو وكليوباترا”. وفان هوف هنا يقدم الصراعات السياسية في روما القديمة، ويسقطها على التقلبات السياسية في عالمنا اليوم، وقد أعدّ فضاء ركحيا عظيما حوّل الخشبة إلى مركز مؤتمر مفتوح، يتوافر فيه ما يتوافر في قاعة مؤتمرات. وهذا الفضاء يمكن أن يتحول من أستوديو تلفزيون إلى صالون جلسة حميمة، ذلك أن الخشبة هي مركز كل ما يجري، فيما تقترح التلفزيونات صور الأحداث الخارجية، وتلتقط في الوقت نفسه ما يجري على الخشبة لتبثه في التو واللحظة، أما المتفرج فهو يشاهد الأحداث وكأنه جالس في صالون، فالممثلون يتصرفون أمامه مباشرة. وتقنية التصوير تلك استعملت أيضا حتى في المسرح السياسي كما هي الحال في “تياروي” لألكسندرا باديا، مسرحية عن مذبحة ارتكبها الجيش الفرنسي في تياوري قرب داكار خلال الحقبة الاستعمارية، وقد تناوب فيها الماضي والحاضر لتصوير أثر المأساة في نفوس الجيل التالي، فالكاتبة، وهي مخرجة المسرحية في الوقت ذاته، تقتفي مسار حيوات هزتها تلك الفترات الحالكة، وتحاول أن تظهر كيف تنتقل الجروح من جيل إلى جيل، وتجعل اللامرئي مرئيا، عبر سبر تيار الوعي الباطني لدى أبطال مسرحيتها، أي أنها تشتغل على التذكر، والتخيل، وتقتحم المناطق التي يمكن أن تتجلى فيها دواخل الشخصيات. واستعملت كذلك في مسرح الفودفيل كما هو الشأن في “سكوت، تصوير!” للفرنسيَّين باتريك هودكور وجيرالد سيبلايراس، وخلاصتها أن فريقا سينمائيا اعتلى الخشبة لتصوير لقطة زوج مخدوع يقتحم البلاتوه، ويعطل عملية التصوير، بغرض قتل عشيق زوجته، والسيناريو المتشابك لم يهمل حتى الجمهور، فهو طرف في هذا العمل، بوصفه ممثلا صامتا أو صاحب دور تكميلي يؤديه بطلب من المخرج.

مشاركة :