الرياض – مثلما يبني الفنان التشكيلي السعودي عبدالرحمن السليمان لوحته الفنية بهندستها وألوانها وزخرفها يبني معانيه وكلماته وبحثه المتأني والدقيق والسلس بأسلوب توثيقي شيق أشبه بمشاهدة فيلم وثائقي، بلغة تأخذ القارئ بعيدا في خياله وتأمله وحنينه وذاكرته، هي دقة تميزه وتجعل منه رائدا ومؤرخا لمرحلة صادقة الأثر والحضور في تاريخ الفن التشكيلي في السعودية، من حيث الحداثة والتأثر والاندماج والتقليد والمواكبة والتطوير، كل هذا التمازج اندمج مع خصوصيته التي عُرف بها عربيا ودوليا، وقد خصّ السليمان المنطقة الشرقية ببحث شامل عن تاريخ ظهور الاهتمام بالفن التشكيلي وبداياته فيها. وحضر كتاب “الفن التشكيلي السعودي في المنطقة الشرقية” الصادر عن جمعية الثقافة والفنون في الدمام، في معرض جدة الدولي للكتاب، وقد دشن الكتاب يوم تكريمه في 18 نوفمبر 2018 في حفل نظمته الجمعية للسليمان، صاحبه أيضا كتاب “لون المكان.. عطر الذاكرة” الذي احتوى أهم الكتّاب العرب في قراءات نقدية لتجربة السليمان الفنية.والكتاب يضم 272 صفحة حمّلها عصارة بحث مكمّل لبحثه الأول “مسيرة الفن التشكيلي السعودي” الذي صدر له كبحث مرجعي مؤرخ لتاريخ الفن التشكيلي في السعودية سنة 2000، حيث جمع عمله الميداني المدمج بحوارات ولقاءات وصور ولوحات جمّعها ووثّقها لتكون بحثا وإصدارا خاصا بالمنطقة الشرقية، من خلال مركز الأدب العربي للنشر والتوزيع. وفي هذا الكتاب يشتغل السليمان على الذاكرة البصرية التي تحدد علاماتها من خلال بيئتها ليضعنا معه في بحثه كمرافقين لرحلة ملونة وعميقة عرّفتنا على مناطق الشرقية وعلى أسس القواعد الأولى للتشكيل في ملامح خطواته الأولى مع أسماء مثل عبدالعلي السنان، محمد الصندل وسعود العيدي في مراحل السبعينات التي تدرجت تجريبا وتأثرا ومواكبات وعرضا سواء جماليا أو ماديا باعتبار أن اللوحة تحفة ولها سوقها ومقتنوها. تسليط الضوء على الخطى الأولى في هذا البحث حاول من خلاله السليمان أن يثبت أهميتها في توسيع منافذ انتشار الفن بأحاسيس حملته شغفا وحبا وانبهارا بترتيب الذائقة الجمالية ونقلا لطبيعة البساطة وخصوصياتها على الورق واللوحات، وهو ما لم يسرده السليمان كمجرد عابر متحدث عن الفن، بل كشغوف مكتشف بدوره للفن مندمج مع تطلعاته مقتحم لفضاءاته بعشق حملنا معه إلى ثنايا تلك الذاكرة، فلم يترك تفصيلا في المنطقة إلاّ وكنا متابعين له بحركة تشبه تلك المراحل في تطلعاتها وتغيراتها في خاماتها وألوانها المائية والزيتية والأقلام والورق والخشب والحفر والنحت والتشكيل وحتى تفاصيل الوصف لألوانها وأماكنها.. تلك التي خلّدتها اللوحة حتى بعد اندثارها أو تغيرها، لتشمل أيضل العروض وتذاكر حضورها وملامح توظيفها وحيويتها ونشاطها وكثافة الاهتمام وملامساتها وتبعاتها المعنوية والمادية وما تأسس وتعمق فنيا جيلا بعد جيل. ويجيد عبدالرحمن السليمان التحول عبر المراحل وكأنه يحملنا معه في رحلة تفصيلية شيقة من البدايات إلى المعاصرة متنقلا عبرها من الرحلات والبعثات الخارجية والتعرف على مدارس الفن الغربية، وأيضا دور رعاية الشباب والمؤسسات وجمعية الثقافة والفنون والمراكز الفنية وجهود الفنانين الذاتية التي قلبت الموازين والقيم الفنية من التقليد إلى الحداثة وما بعد الحداثة من رسم الواقع إلى التجريد والسريالية من توافق المفاهيم بتوازن بين الموروث والمبتكر.
مشاركة :