برنامج «المنكوس» التلفزيوني، الذي أطلقته لجنة إدارة المهرجانات والبرامج الثقافية والتراثية في أبوظبي مؤخراً، مبادرة جادّة ورصينة تستحق الوقوف عندها، فغير أنّه يشكّل أضخم مسابقة على مستوى العالم العربي والمنطقة، يتنافس فيه المشاركون من مختلف الدول العربية والخليجية على أداء «لحن المنكوس»، أحد الفنون التراثية الإماراتية والخليجية لغناء الشعر النبطي، يأتي في إطار نّهج القيادة الرشيدة لدعم الإبداع والمبدعين في مجال صناعة الكلمة، ونظم القصائد وتلحينها. ويشارك في النسخة الأولى من البرنامج على مسرح شاطئ الرّاحة بأبوظبي، 18 متنافساً في حلقات مباشرة، وسيكون الأهم في سلسلة المبادرات التي أطلقتها الدّولة تحت مظلة استراتيجية ثقافية لتشجيع وتكريم المبدعين وتقدير دورهم في تعزيز مفهوم «الثقافة الجماهيرية»، وهي بذلك تستلهم أفكار ورؤى الأب المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه»، في الحفاظ على التراث، وتبنّي نهجه ومدرسته في تحقيق التوازن بين النهضة العمرانية الاستثنائية، والحفاظ على ثقافة التراث والموروث الشعبي، إذ كان له الفضل «رحمه الله» في الحفاظ على ثقافة وشخصية الشعوب الخليجية، وهوية الإمارات الثقافية وسط الازدحام من التطور الحضاري الذي امتد ليشمل القطاعات كافة في الدولة من منظور تحقيق معادلة الأصالة والمعاصرة، ومن بينها هذا البرنامج الواعد الذي ترجع تسميته بهذا الاسم «المنكوس» إلى طريقة أدائه في الغناء، إذ يبدأ المغني بطبقة صوت مرتفعة تنخفض شيئاً فشيئاً مع الشطر الأول من صدر البيت الشعري لتبلغ أوجها في نهاية هذا الشطر، ثم تعود وتنتكس «تنخفض» بشكل متدرج في الشطر الثاني من البيت. منصة ثقافية وفي 24 ديسمبر الماضي، استقبل صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، في مجلس قصر البحر أعضاء لجنة تحكيم «برنامج المنكوس»، يرافقهم اللواء الركن طيار فارس خلف المزروعي، رئيس اللجنة، ولهذا الاستقبال الرسمي الرفيع المستوى دلالات كثيرة، أهمها أنّه يترجم اهتمام الدّولة بمثل هذا الحدث الذي تحتضنه العاصمة أبوظبي، بما لها من مكانة عالية كمنصة ثقافية عالمية، ومركز ريادة وجذب لفهم أمثل للإبداع وتأثيره في بناء الدول الحديثة، إلى جانب ما تبادله سموه من حديث اتسم بالشفافية مع اللجنة حول أهمية تعريف الأجيال الجديدة بالموروث الشعبي والتراثي الثقافي الغني بمحتواه الإنساني، وأهمية تكريسه والمحافظة عليه وتعزيز دوره في ترسيخ ثوابت الهوية الوطنية والقيم الإماراتية، والمساهمة في المحافظة على الموروث الشعبي المادي والمعنوي، ومد جسور التواصل بين الأجيال، إضافة إلى ما يحققه هذا الدعم في تنشيط ذاكرة «ثقافة التراث» وإثرائها المشهد الثقافي العربي بمثل هذا النّوع من البرامج الرصينة. الهوية الوطنية من جانبه، قال اللواء الركن طيار، فارس خلف المزروعي، رئيس إدارة المهرجانات: «إن اللجنة وضمن توجهاتها وأهدافها تسعى إلى التعريف بالموروث الشعبي والمحافظة عليه وتعزيز دوره في بناء الهوية الوطنية، تجسيداً لتوجيهات القيادة الرشيدة، وما نلمسه منها من تشجيع على التمسك بقيمنا الإنسانية والالتزام بالمحافظة على تراثنا المادي والمعنوي، والعمل الدؤوب من أجل بناء مجتمع متماسك يعتز بقيمه وعاداته الأصيلة»، مضيفاً أن إطلاق برنامج المنكوس في العاصمة أبوظبي» يهدف إلى تسليط الضوء على مؤدي لحن المنكوس الذين يتميزون بأصواتهم الجميلة المغناة بمهارة على هذا اللحن. شروط المنافسة بحسب عيسى سيف المزروعي، نائب رئيس لجنة تحكيم البرنامج، فإنه سيكون مبشراً وقوياً، بعد أن تلقت اللجنة مشاركات صوتية نوعية لمئات المشاركين من مختلف الدول العربية والخليجية، ما يبشر بحلقات تلفزيونية استثنائية في «لحن المنكوس»، لنفهم من ذلك أن العمل على إنجاز مصوغات وحيثيات البرنامج تسير على قدم وساق وفي وقت قياسي، سواء من حيث تدقيق المواد الصوتية الخاصة بلحن المنكوس، أو على مستوى فهم تنوع المشاركات والتزامها بشروط المنافسة، لتقديمه وفق رسالته وأهدافه الرامية إلى الحفاظ على الموروث الثقافي، وتسجيله كمنصة ثقافية دائمة تنطلق نحو العالمية، عبر مسابقة تلفزيونية يمر بها المشاركون بعدة مراحل، تبدأ بمرحلة تجارب الأداء، مروراً بحلقات البث المباشرة، وصولاً إلى الحلقة النهائية التي تنتهي بفوز مشارك واحد، ليكون بطل الموسم الأول في أداء «لحن المنكوس». لجنة التحكيم برنامج بهذه النوعية والحجم والتأثير في أبعاده الثقافية، لا بد من لجنة تحكيم متخصصة وخبيرة بأسرار وعوالم الموروث الشعبي، وهذا ما أفصح عنه سعيد بن كراز المهيري مدير البرنامج، قائلاً، إن لجنة تحكيم البرنامج تضم نخبة مميزة من الباحثين في الشعر النبطي وألحانه والمتخصصين في النقد والأدب والشعر من الإمارات ودول الخليج العربي، إذ تتكون لجنة التحكيم من الناقد والأكاديمي الدكتور حمود جلوي عضو هيئة التدريس في قسم اللغة العربية بكلية التربية الأساسية في دولة الكويت، ومن شاعر النظم والمحاورة محمد بن مشيط المري من دولة الإمارات العربية المتحدة، إضافة إلى شاعر النظم والمحاورة والمنشد شايع فارس العيافي من المملكة العربية السعودية. وتابع أن العمل النّاجح في أي مهرجان أو تظاهرة ثقافية أو فنية، يتوقف على قوة وحيادية لجنة التحكيم، نتيجة وجود ثمة إشكاليات ترتبط بنتائج أي مهرجان يردها البعض لأداء لجنة التحكيم، ونعتقد في التقدير أن مثل هذا الاختيار الموفق للجنة تحكيم برنامج المنكوس سيكون له التأثير البالغ في تميزه وتواصله، نوعاً وكمّاً. جسر تواصل ويعتبر الموروث الشعبي جزءاً مهماً من تاريخ وثقافة الشعوب، فهو الوعاء الذي تستمد منه عقيدتها وتقاليدها وقيمها الأصيلة ولغتها وأفكارها وممارستها وأسلوب حياتها، فضلاً عن دوره في التواصل بين الأجيال، كما أن الموروث يمثل إحدى الركائز الأساسية في عملية التنمية والتطوير والبناء، والمكوّن الأساس في صياغة الشخصية وبلورة الهوية، وتنظيم برنامج «المنكوس» يصب ضمنا في قناة الموروث الشعبي. وفي هذا السياق، يقول الدكتور حمد بن صراي، الأستاذ المشارك في قسم التاريخ والآثار بجامعة الإمارات: «إن التراث أمر لا غنى عنه لتحديد الهوية، والحماية، والتفسير، والحفاظ على المكونات المادية المنقولة، والمباني التاريخية، والمواقع الآثرية، والمظاهر الطبيعية الفنية والثقافية». جوائز يمنح برنامج المنكوس جوائز ومكافآت قيّمة للمتسابقين الخمسة الفائزين بالمراتب الأولى، حيث يحصل الفائز بالمركز الأول على 500 ألف درهم، والثاني على 300 ألف، والثالث على 200 ألف، والرابع على 150 ألفاً، والخامس على 100 ألف، كما يحصل بقية المتأهلين والبالغ عددهم 13 على مكافآت مالية قيمة. جمال الصوت وقوة الأداء يعتبر جمال الصوت من المعايير والمقاييس الأساسية المعتمدة من قبل لجنة تحكيم برنامج «المنكوس»، خلال تجارب الأداء، وذلك لكون «المنكوس» يعتمد بشكل كبير على صوت المؤدي بطريقة فرديّة، وثنائية، أو بمصاحبة آلة الربابة، وللمنكوس ألحان عدة، كما أنه يُؤدى عادة في الفترة الممتدة من العصر إلى منتصف الليل، في مختلف المناسبات الاجتماعية والوطنية، وأن معايير الاختبار في الحلقات المباشرة ستكون من خلال عدد من الألحان المعروفة إماراتياً وخليجياً للحن المنكوس، والتي تم اختيارها من بين 28 لحناً متعارفاً عليها في منطقة الخليج العربي، وسيكون هناك تقييم لجمالية الصوت وقوته وطريقة وقوة الأداء عبر إتقان اللحن، وطول النفس وحسن الأداء. طائر الورقاء «المنكوس».. يعتبر أحد بحور الشعر النبطي الطويلة، التي تطرب سامعها وتشده إليها من خلال تفعيلة العروض المتميزة عن غيره من بحور الشعر الأخرى، وتفعيلة المنكوس هي من البحر الطويل (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن) مع الالتزام بالقافية في صدر بيت الشعر وعجزه، ويقال إن تسمية «المنكوس» ترجع إلى حركة طائر الورقاء «أم سالم»، التي يستدل البدو منه على قدوم فصل الصيف، إذ إنّ صوت هذا الطائر وتغريده يزدادان كلما ارتقى إلى الأعلى، ثم لا يلبث صوته الشجي الشفيف أن ينخفض، كلما انتكس هابطاً نحو الأرض، كما يطلق على المنكوس اسم طارق أو لحن المنكوس، لأن المؤدي يطرق بصوته مسامع الآخرين أثناء الأداء الفني.
مشاركة :