ليس بمقدور من يرتاد المعرض الذي يقيمه كاليري ساجي Saatchi" " أن يصرف الذهن عن كلمة " ما بعد" التي وضعها المنظمون كي تستبق تسمية فعاليتهم " Post Pop Art " فالمعروضات معظمها تدخل في باب البوب آرت، ولكنها تمثل ربما آخر نماذجه. هذا الكاليري يعود لعائلة يهودية عراقية مهاجرة منذ الخمسينات، كان اسمها في العراق يشير إلى مهنتها "الساعاتي" ، ولكنهم استطاعوا بناء امبراطورية إعلامية وفنية ضاربة حول العالم وليس فقط في بريطانيا. كان رهانهم على كلمة " ما بعد" فهي مفتاح المبادرة التي تبتكر الذوق الحداثي أو تستبقه أو تروج له. من يتذكر صعود مارغريت تاتشير، يشير إلى جهودهم في تدريبها فن الخطابة. معرضهم "إثارة" الذي اقيم في التسعينات في الأكاديمية البريطانية، أرغم الكنيسة على وقفة احتجاج ولافتات تناشد فيها الجمهور أن لا يرى تلك المشاهد التي لا تحترم الأخلاق المسيحية. نجح المعرض وقتها، ربما بسبب هذا الموقف الكنسي، أو لأنه شحن فضول من ينوي متابعة الصرعات الجديدة، رغم معرفتهم بمحاولته استثارة الغرائز عند الشباب، من مناظر العنف والجنس، حتى القرف والاشمئزاز. نستطيع القول ان المعرض الحالي " ما بعد البوب آرت" هو مزيج من فن الطرافة والهجاء، كما هو الحال في معظم ما أنتجه هذا الفن، ولكنهم يضعون له عنوانا مكملاً " الغرب يلاقي الشرق" ، فيبدو اللقاء في النهاية أقرب إلى معركة لن يخسر فيها سوى أطراف ثلاثة : الشيوعية والمسيحية والإسلام. ثمة ما يوحي بأن فن الإعلان الغربي يقوم بوظيفتين هنا، فهو هاجٍ ومهجُوّ، فصورة الإعلان الرئيسية تجمع مارلين مونرو مع ستالين، هو بمظهره البرونزي، وهي بمظهرها الورقي. المعرض واحد من الفرص المهمة التي يتجلى فيها فن البوب آرت بأقوى مظاهره، وعلى وجه الخصوص في الأجنحة التي تختص بمفهوم الأدلوجة الشمولية، فهو لا يقتصر على اللوحات والمنحوتات فقط، بل على الأعمال المتحركة كهربائيا، سواء كانت عربة سندويجات الوجبات السريعة، او النساء الراكعات في ايران . تلك الغرابة التي جمع فيها أحد الفنانين كل رايات الدول في العالم الشرقي والغربي، ووضعها في متاهة صنعت من الشَعْر والصمغ، يصلب فيها الإنسان الجديد على الحائط، وتنغرز في جسمه مئات المسامير. يدور الجمهور في تلك المتاهة، متحريا كل واحد فيهم علم بلاد، وكأنه يدخل في مفارقة الضياع الهوياتي. تستنهض الكوميديا في جناح الدولتين الكبيرتين في العالم الشيوعي، الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية، والأعمال كلها لفنانين من البلدين، ففن الدعاية الإيقوني الجديد يجمع لينين والمسيح في منحوتة وهما يقودان ميكي ماوس أشهر شخصيات والت ديزني، أو ترى شخصيات البوستر المعروف للثورة الصينية حيث الطالب والعامل والفلاح يجمعون قبضاتهم الى الأمام ليضعوها على علامة تجارية تعود إلى شركة ملابس غربية معروفة. هل يمكن القول انها إشارة الى غزو الصين الجديد للبضاعة الرأسمالية، او أن الميكي ماوس يرمز إلى الجماهير. يبدو التفسير ساذجاً، على رغم ما يحفل به البوب آرت من مباشرة وفورية. ولكن هذا الفن تطور اليوم أو هكذا يوحي المعرض ذاته لتبدو رسائله قابلة لتفسيرات مختلفة، او يجهد فنانوه كي يرتقوا بأعملهم الى مصاف الفن النخبوي. فالبوب آرت أو الفن الشعبي، كان على نحو ما نتاج الثورة على نخبوية الفنون ومدرسيتها، وبعضهم يرجعه إلى مبولة مارسيل دو شامب وهو فنان دادي وسوريالي، بلغت به الفانتازيا مبلغاً أن وضع مبولة سيراميك في معرض أقيم للأعمال الطليعية في باريس نهاية عشرينات القرن المنصرم، وأسماها النافورة، فذهب عمله مثلا للجرأة في تجاوز المتعارفات في الفن التشكيلي، ولكنه بقي معلماً على القيمة الرمزية لفكرة التلقي. عمل أحد الفنانين الصينيين في هذا المعرض يبدو فائق الدقة والتعبير في منحوتتين تشبهان رقيمات الكتابة في الحضارات القديمة، لكائنات تتصاغر في حشد وجودها فتصنع احداها ما يشبه معبد اللذات الهندي، أو يلوح سور الصين وهو يحيط بتلك الجماهير ليقف الخطيب على مبعدة موجهاً وداعية. فن السخرية في هاتين المنحوتتين وصل أوجه، ولكنه فن يقوم على معالجة فكرة الحشود الممتثلة، والجماهير أو الكثرة جزء من تاريخ الصين القديم، بيد ان صين ماوتسي تونغ على وجه التحديد مستهدفة في هاتين المنحوتتين، كما بصور قادتها المصطفين مع رموز النضال الفيتنامي في أكثر من عمل. الفنانون هنا ليسوا من الصين الشعبية، بل من هونغ كونغ عدوتها، قبل أن تخسر بريطانيا هذه المستعمرة في السنوات الأخيرة. لعل بمقدور المتابع هذا المعرض الإقرار بحقيقة بسيطة وهو أنه رسائل قادمة من العالم الرأسمالي المنتصر في معركته ضد المعسكر الاشتراكي، حتى ولو كانت معظم أعماله تعود الى فنانين من البلدين الشيوعيين، لأن رسائل الفن الساخرة من تخمة الغرب في تسليع كل القضايا وتشييئها وتجارة الأسلحة والحروب، تبدو هنا ضعيفة، قياساً على قوة الهجاء للعالم الآخر المضاد، على ما عليه الدكتاتوريات من امكانية على استنهاض فن السخرية. لعل هذا العرض يدفع الى الاعتقاد بأن فن البوب آرت الحديث أصبح يتخذ أبعاداً جديدة سواء في المعركة السياسية أو في تقديم نفسه مبتكرا لآفاق واسعة في فن التهكم والنقد، ومع أننا نشاهد في هذا المعرض بدلات الجنرالات بنياشينها الحربية تقف صفاً على مساند ترفعها عن الأرض، في إشارة إلى الدكتاتوريات، غير أن تلك البدلات لا تخص الشرق سواء شرق أوربا أو شرقنا، فجنرالات الحرب تناسلوا في أميركا سيدة فن البوب آرت وما بعده.
مشاركة :