كاتب يطرح كل أنماط الأسئلة التي أثيرت في الفلسفة منذ 3000 سنة

  • 1/5/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

لا يمكننا نسيان تلك القرون الوسطى التي شهدت احترابا فكريا هائلا بين العلم في بواكيره الأولى وبين الأنساق اللاهوتية الممثّلة في المؤسسة الكنسية، وتطلّب الأمر قرونا من النضال الفكري حتى بلغنا حالة حصل الاعتراف بفصل الأدوار بين الأنساق اللاهوتية والأنساق العلمية، وتطوّر الأمر لاحقا. يطرح البروفيسور بول دايفيز في كتابه “الإله والفيزياء الجديدة” فكرته الواضحة التي تقول “إن العلم مبحث معرفي يختلف تماما عن فضاء اللاهوت (والدين بعامة)، والقطيعة بينهما هي قطيعة معرفية فحسب؛ لكنّ هذا الأمر لا يعدم إمكانية التعايش بينهما متى ما صار اللاهوت نسقا ثقافيا مثل سائر الأنساق الثقافية”. الإنسان والكون لا يعد كتاب “الإله والفيزياء الجديدة” من المصنفات الكلاسيكية حول العلاقة بين العلم والدين؛ إنما هو كتاب حول ما دُعِي عام 1983 بِـ”الفيزياء الجديدة”، كتبه بول دايفيز العالِم الفيزيائي الشهير الذي سيعمل عقب ست سنوات من نشر كتابه هذا على تحرير مصنّف أكاديمي ضخم بالعنوان ذاته “الفيزياء الجديدة”، ثم سيغدو مولعاً ولعا عظيما بعد ذلك في مبحث الحياة على الأرض والتساؤل عن الحياة خارج المنظومة الكوكبية المعروفة. بكلمات أخرى فإنّ ديفيز مولَعٌ بطرح كل أنماط الأسئلة التي أثيرت في الفلسفة منذ 3000 سنة وبخاصة ذلك السؤال متزايد الأهمية الخاص بكيفية نشوء الكون، ونشوء الحياة، وكيفية استحالتنا إلى ما صرنا عليه في وقتنا الحاضر. ليس من شكّ في أنّ الفيزياء تقدم كشوفات جديدة كل يوم حتى أنها بلغت مستويات غير مسبوقة، غير أن طبعات هذا الكتاب تتزايد كل يوم وتتعاظم مقروئيته بالعشرات من اللغات العالمية، وتُباع منه أعداد كبيرة كل سنة لسبب واضح أن كتاب “الإله والفيزياء الجديدة” يتناول الأسئلة الكبرى للحياة والكون وكل شيء، ويُلاحَظ هنا أنّ الأسئلة الكبرى لا تتعلق بموضوعة “أين، أو كيف، أو ماذا، أو حتى مَنْ ؟” بل بالسؤال “لماذا؟” ذلك السؤال مفتوح النهايات والذي يستثير قدرا عظيما من الدهشة والسحر. ويختار ديفيز التقدم في مقاربته المعتمدة في كتابه بصبر عجيب عبر مساءلة كل الدلائل الحجاجية الممكنة: تعريف التعقيد الذي تنطوي عليه الحياة، التجريدات الجوهرية الكامنة في مفهوم العقل والروح، فكرة الذات، والحجاج المستديم بشأن ما إذا كان يوجد حقا ما يمكن أن يدعى “الإرادة الحرّة”. ويتطرق حتى إلى المعضلة المستديمة في تعريف مفردات مثل “معجزة”، أحجية الزمان، معضلة التساؤل الأبدي: هل أن الكون صدفة عارضة أم جزء من خطة أعظم، واللغز الكامن في حقيقة أن قيم الثوابت الخاصة بكل القوى الفيزيائية تبدو منغّمة تنغيما دقيقا بقصد خلق الحياة وإدامتها (مرة واحدة فحسب على حدّ ما تؤكده معرفتنا العلمية الحالية). ويوفّر دايفيز في هذا الكتاب شواهد كثيرة مقتبسة من مصادر متعددة، وتأتي هذه المقتبسات في سياق مناسب لتشكّل جزءا مكمّلا وأصيلا من الكتاب، وينطلق المؤلف من هذه المقتبسات في الشروع بأسئلة مثيرة خليقة بفتح نوافذ جديدة أمام القارئ للحصول على استبصارات مدهشة بمثل إدهاش الأسئلة التي حفّزتها في عقله. وتثير بعض أطروحات دايفيز في كتابه هذا موضوعات كلاسيكية؛ في حين تبدو بعض الموضوعات الأخرى أكثر قدرة على الإدهاش والإبهار بسبب التطورات الهائلة التي حصلت في ميدان الفيزياء الكوسمولوجية ونظرية الكمّ، ومن أمثلة الموضوعات المدهشة التي يتناولها دايفيز بالتفكّر والاستقصاء هي الكيفية التي يبدو بها الكون وليمة غداء مجانية عظمى انبثقت من لا شيء وتحكمها سلسلة أنيقة من القوانين الرياضياتية الدقيقة. ويمتاز كتاب دايفيز هذا بميزة مهمة؛ ففي الوقت الذي يتناول فيه بعض الأسئلة الكبرى التي تختصّ بالمعضلات الكونية والوجودية المعروفة، فإنه في سياق مبحثه المعرفي هذا يوفّر للقارئ خلفية متوازنة من المعرفة الفيزيائية والرياضياتية والفلسفية والفكرية في إطار محبّب يحتاجه المرء في هذا العصر الذي يشهد تعاظم تأثير نظرية الأنساق، والنظم الديناميكية الفوضوية، ونظرية التعقيد، ونظرية الأنساق ذات التنظيم الذاتي إلى جانب تعاظم تطبيقات الذكاء الاصطناعي والخوارزميات فائقة الذكاء. الوعي البشري يبدي البروفيسور بول دايفيز ولعا طاغيا مميزا في استكشاف النتائج الفلسفية المترتبة على الأفكار المتقدمة في جبهات البحث العلمي الأمامية، ويركز في كتابه هذا على الأسئلة العميقة الخاصة بالوجود، مثل: كيف انبثق الكون إلى الوجود وكيف سينتهي؟ ما طبيعة الوعي البشري؟ ما إمكانية السفر عبر الزمان؟ ما العلاقة بين الفيزياء والبيولوجيا؟ متسائلا أيضا حول طبيعة قوانين الفيزياء والعلاقة بين العلم والدين. وإلى جانب الأسئلة الكبرى التي قدّمها فإن الجرعة التقنية الخفيفة التي ضمها الكتاب تبدو جرعة ممتعة مثيرة للتفكير والفضول ويمكن التعامل معها بسهولة فائقة لمن يمتلك ما يكفي من الشغف تجاه هذه المؤلفات الحيوية المنطوية على سحرها الخاص، ويمكن تشبيه قراءة هذا الكتاب بمثل ما يحصل معنا عندما نقرأ بعض الشعر الرومانتيكي أو الحديث حيث يمكن ترك الدفّة لموسيقى الشعر وإيحاءاته الشفرية اللذيذة والغامضة لتقودنا إلى تخوم بعيدة. البروفيسور دايفيز ليس محض عالم فيزيائي وفيلسوف علمي وكاتب مروّج للثقافة العامة، بل هو أحد خالقي مفهوم “الثقافة الثالثة” التي باتت سمة مميزة لعصرنا هذا. ليس المقصود بالثقافة الثالثة- كما قد يتبادر إلى ذهن المرء أوّل الأمر- أن تكون تركيبا تخليقيا يجمع الثقافة العلمية مع الأدبية ليخرج منها بخلطة ذات عناصر متوازنة من تينك الثقافتين؛ بل صار العلم وعناصره المؤثرة في تشكيل الحياة البشرية هما العنصر الحاسم في الثقافة الإنسانية، بعد أن غادر العلم مملكة الأفكار والرؤى الفردية والأيديولوجيات. والثقافة الثالثة التي اقترح دايفيز مفهومها، ستكون خصيصة العصر المميزة في العقود القادمة ولأمد بعيد، وعلينا الاعتياد على مفرداتها بتبصّر وشغف، ولستُ أرى في كتاب “الله والفيزياء الجديدة” سوى جزء ضروري من الإعدادات المسبّقة اللازمة للإيفاء بمتطلبات عصر الثقافة الثالثة القادم لا محالة.

مشاركة :