يقول هيجل: الشعر هو الفن المطلق للعقل، الذي أصبح حرّاً في طبيعته، والذي لا يكون مقيّداً في أن يجد تحققه في المادة الحسيّة الخارجية، ولكنه يتغرّب بشكل تام في المكان الباطني والزمان الباطني للافكار والمشاعر . مما لا شكّ فيه انّ الموهبة قد تموت وتنتهي بالتدريج إذا لم يستطع الشاعر تطويرها واستثمارها أقصى إستثمار عن طريق الاطلاع على تجارب الاخرين والاستفادة منها والاتكاء على المخزون المعرفي لديه، وتسخير الخيال الخصب في إنتاج وكتابة كتابات متميّزة ومتفرّدة تحمل بصمته الخاصة التي عن طريقها يُعرف ويُستدلّ بها على إبداعه، وقد تموت أيضا إذا لم تجد التربة الصالحة والمناخ الملائم لإنضاجها، وقد تنتهي حينما لمْ تجد مَنْ يحنو على بذورها التي تبذرها ويعتني بها ويُسقيها من الينابيع الصافية والنقيّة، فلا بدّ من التواصل والتلاقح مع تجارب الآخرين الناجحة والعمل على صقل هذه الموهبة وتطويرها والاهتمام بها وتشجيعها والوقوف إلى جانبها قبل أن تُجهض. نحن سعداء جدا في مؤسسة تجديد الأدبية ان نستنشق الآن ملامح إبداع جميل وحضور مشرق من خلال دعمنا المستمر للمواهب الصادقة والناجحة في هذا الموقع، فلقد أصبح لدينا الآن مجموعة رائعة جدا من الشعراء والشواعر الذين يجيدون كاتبة القصيدة السرديّة التعبيريّة، ونحن لم ندّخر أي جهد في مساعدة الجميع عن طريق الدراسات النقديّة والنشر والتوثيق المستمر في المواقع الإلكترونية الرصينة وفي بعض الصحف الورقيّة، وإبداء الملاحظات من أجل تطوير وإنضاج هذه الاقلام الواعدة، نحن على ثقّة أنه سيأتي اليوم الذي يشار إلى كتابات هؤلاء والإشادة بها وإلى القيمة الفنية فيها ومستوى الإبداع والتميّز وما تحمله من رساليّة فنيّة وجماهيريّة . الشاعرة امتلكت مقدرة وقوة في الخيال على أن تخلق لنا صورا غير واقعية مشعّة والتعبير عما يجول في خاطرها عن طريق هذا اللغة المتموّجة العذبة المتسمة بالصفاء والفنية العالية فلم تعد قوالب الشعر الجاهزة ترضي غرور شعراء السرد التعبيري لذا حاولوا ونجحوا في الانفلات من هذه القوالب ومن هيمنتها ولو بشكل محدود (في الوقت الحاضر)، وتجلى هذا من خلال طرق كتابة النصّ والموضوعات التي يتطرق اليها، وترسخت فكرة التجديد لديهم وخطّوا لهم طريقا مغايرا في كتاباتهم، وصاروا يواصلون الكتابة ويأخذون منحى آخر لهم بعيدا عما هو سائد الآن في كتابة قصيدة النثر. صارت القصيدة أكثر حرّية وانفتاحا على التجارب العالمية، لقد منحت السرديّة التعبيريّة لكتّابها الحرية والواسعة والفضاء النقيّ الشاسع والإنطلاق نحو المستقبل خاصة حينما يكون التعبير أكثر شبابا وصدقا عن المشاعر الحقيقية المنبعثة من القلب الصافي كالينبوع العذب، فلقد أحسّ الشاعر بمهمته الصعبة في الكتابة بهذا الشكل الجديد والمختلف والذي نؤمن به وبقوّة، فنحن نؤمن وعلى يقين بأنّ القصيدة السردية التعبيريّة هي قصيدة المستقبل لقدرتها على الصمود والتطوّر المستمر نتيجة التجربة الطويلة والتراكم الابداعي، بروعة ما تقدّمه وتطرحه على الساحة الشعرية. نعم أحسّ الشاعر بالانتماء والإخلاص لهذا اللون الأدبي الجديد والذي نطمح في قادم الأيام أن يكون جنسا أدبيا متميّزا، لهذا استطاع الشاعر أن يطوّع المفردة رغم قسوتها وعنادها وإعادة تشكيلها وتفجير كل طاقاتها المخبوءة، وأن يفجّر من صلابتها الينابيع والانهار وإستنطاقها نتيجة ما يمتلكه من خيال جامح إبداعي وعاطفة صادقة جيّاشة وإلهام نقيّ وقاموس مفرداتي يعجّ باللغة الجديدة . سنتحدث اليوم عن صوت المرأة الشاعرة في السرديّة التعبيرية ونختار بعض القصائد كي نشير إلى مستوى الإبداع وكميّة الشعرية فيها، ونستنشق عبير هذه القصائد النموذجية . إنّ حضور الصوت النسائي في السرديّة التعبيرية له تاريخه المشرق وحضوره البهيّ، فمنذ تاسيس موقع "السرد التعبيريّ" كان حضور المرأة الشاعرة متميّزا ينثر عطر الجمال ويضيف ألقاً وعذوبة في هذا الموقع الفريد والمتميّز، وقدّمت قصائد رائعة جدا تناولها الدكتور أنور غني الموسوي بالقراءات الكثيرة والإشادة بها دائما، وتوالت فيما بعد الإضاءات والقراءة النقدية لهذه التجارب المتميّزة من قبل بعض النقاد ومن بعض شعرائها. فاصبحت هذه القصائد نوعية مليئة بالإبداع الحقيقي وبروعة ما تطرحه من أفكار ورؤى ومفعمة بالحياة وروح السرديّة التعبيريّة وخطّتْ لها طريقاً تهتدي به الأخريات ممن عشقن السرد التعبيري وحافظن على هيبته وشكله وروحه والدفاع عنه. لقد أضافت الشاعرة إلى جمالية السرديّة التعبيريّة جمالا آخر وزخما حضورياً وبعثت روح التنافس وحرّكت عجلة الإبداع فكانت بحق آيقونة رائعة. القصائد التي كتبتها المرأة في السرد التعبيري كانت معبّرة بصدق عن اللواعج والآلام والفرح والشقاء والحرمان والسعادة، بثّت فيها شجونها وخلجات ما انتاب فؤادها، ولقد أزاحت عن كاهلها ثقل الهموم وسطوة اللوعة، وجسّدت في قصائدها آلامها ومعاناتها في بناء جملي متدفق، منحت المتلقي دهشة عظيمة وروّت ذائقته وحرّكت الإحساس لديه. كانت وستظلّ زاخرة بالمشاعر والأحاسيس العذبة ومتوهّجة بفيض من الحنان، نتيجة إلى طبيعتها الفسيولوجية والسيكولوجية كونها شديدة التأثر وتمتاز برقّة روحها فانعكس هذا على مفرداتها وعلى الجو العام لقصائدها، فصارت المفردة تمتلك شخصية ورقّة وعذوبة وممتلئة بالخيال وبجرسها الهامس وتأثيرها في نفس المتلقي، فكانت هذه القصائد تمتاز بالصفاء والعمق والرمزية المحببة والخيال الخصب والمجازات ومبتعدة جدا عن المباشرة والسطحية، كانت عبارة عن تشظّي وتفجير واستنهاض ما في اللغة من سطوة، كل هذا استخدمته بطريقة تدعو للوقوف عندها والتأمل وإعادة قراءتها لأكثر من مرّة لتعبر عن واقعها المأزوم وعن همومها وهموم النساء في كل مكان. فرغم مشاغلها الحياتية والتزاماتها الكثيرة استطاعت الشاعرة أن تخطّ لها طريقا واضحا وتتحدّى كل الصعاب وترسم لها هويّة واضحة الملامح، فلقد بذرت بذورها في أرض السرد التعبيري ونضجت هذه البذور حتى أصبحت شجرة مثمرة. لقد وجدنا في النصوص المنتخبة طغيان النَفَس الأنثوي واحتلاله مساحة واسعة فيها معطّرة برائحتها العبقة واللمسات الحانية والصدق والنشوة، فكانت ممتعة جدا وجعلت من المتلقي يقف عندها طويلا منتشيا، وحققت المصالحة ما بين الشاعرة والمتلقي وهذا ما تهدف إليه الكتابة الإبداعية. أنت والأمان لي صنوان خالدة أبوخليف ولكن بعد كل الجهود التي بُذلت من قِبَل ممن كتبن القصيدة السردية التعبيرية وبعد أن أصبحت هذه القصيدة ملامحها وتقنياتها واضحة للكثير منّا، وجدنا بأنّ صوت المرأة وجماليته بدأ يأخذ مكانته في الخطاب الشعري وبشكل واضح ومؤثر في القصيدة السردية التعبيرية. لقد أصبح صوت المرأة يمتلك جمالية فذّة عميقا يعكس رؤيتها نحو هذا الكون ويعكس حاجاتها ورغباتها بطريقة رمزية إبداعية ساحرة ، لم تكن تبحث عن التوسل بالجسد والإثارة ولم تفتعل قضايا وأزمات لأجل الشهرة، إنما أصبح صوتها عبارة عن صراخ بوجه الواقع المتردي / السياسي – الإجتماعي – والثقافي / أصبح صوتها منافسا قويا في فضاء السردية التعبيرية لصوت الرجل من خلال هذا الكمّ الهائل من الجمال والإبداع الحقيقي، أصبح صوتها يعبّر عن المرأة أينما كانت وتكون، ولم تعد مجرّد رقم يحمل صفة المتلقي فقط في الخطاب الشعري، وإنما أصبحت شاعرة تجيد لعبة الشعر وتتقن صياغة قصيدتها بحرفية رائعة، فأصبحت هذه التجربة الإنسانية الإبداعية تتطور بشكل سريع ومذهل نتيجة تعدد الأصوات الأنثوية ممن يُبدعن في كتابة القصيدة السردية التعبيرية . وبالعودة إلى الشاعرة خالدة أبو خليف، وفي قصيدتها "غليان" نجد كلّ هذا الصراخ – الغليان – يتخفّى وراء صوت الرجل ولو كان بصوتها لكان صراخاً وغلياناً يأخذ مسارات أخرى، لكننا من خلال العنوان نجد الشاعرة تبحث عن قيمة ثقافية وجمالية للجسد أكثر من الإثارة والابتذال، وهي تقف ما بين التذكير بهذا الجسد أو إنكاره. إنَّ في العنوان / ثورة / تثيرنا من خلاله الشاعرة ولتضعنا على أعتاب زخم شعوري عنيف وهذا من مميّزات السرد التعبيري. فنحن نعلم بأنّ السرد التعبيري لا يعني السرد الحكائي / القصصي / وإنما نعني به السرد الممانع للسرد، السرد الذي يكون همّه نقل الإيحاء والمشاعر العميقة والأحاسيس المرهفة وتضخيم طاقات اللغة عن طريق الخيال والرمزية، بينما التعبيري والمأخوذ من المدرسة التعبيرية نقصد به التكلّم والكتابة بعمق وبوح شعري فيكون تجلّي لعوالم الشعور والإبهار. ويتجلّى السرد التعبيري بوضوح من خلال عناصر كتابية نصّية / فقرات نصّية متتالية بدون توقف أو تشطير أو نقاط بين هذه الفقرات / وكذلك الرمزية والإيحاء وممانعة السرد ببوح شعري فتتحقق الشعرية من خلال هذا النظام الكتابي، فكأنّ النصّ يريد الحكاية أو سرد حادثة معينة، وهنا تبرز الشخوص النصّية والحدث النصّي حتى تتجه جميعها نحو بوح شعري وبتعبير عميق وشاعرية كثيرة. نصّ الشاعرة تمّ اختباره على أساس أنه يحمل بعض ملامح السرد التعبيري ألا وهي اللغة المتموّجة والتي تتناوب ما بين فقرات وتراكيب توصيلية وأخرى إنزياحية مثيرة، لأجل ترسيخ فكرة السرد التعبيري والكشف عن ملامحه فقط. "قهوتك السمراء حيرة في طعمها عبق ولذة". للوهلة الأولى نستشعر بأنّ النصّ يحاول أن يحكي ويسرد لنا سردا قصصيا من خلال / قهوتك السمراء – وهي عبارة عن فقرة توصيلية – لكنّ اللغة تتجه نحو التغريب والابتعاد عن الواعية واللاألفة والترابط ما بين هذا المقطع من خلال هذه الانزياح اللغوي – حيرة – في طعمها عبق ولذّة. "جوزة الطيب تحلق عاليا أرتشف من عينيك جواباً .." هنا نجد أيضا – جوزة الطيب – وهي فقرة توصيلية – نجد الشاعرة تمنحها هذه القدرة على التحليق والارتفاع عاليا، فإنّ الشاعرة استطاعت أن ترسم لنا هذه اللوحة بعدما تخلّصت من المباشرة في اللغة وبعثت في "جوزة الطيب" الحياة. وفي هذا المقطع نجد أكثر من شخصية نصّية تتناوب فيما بينهما اللغة المتموّجة.. "يفيض بركانها تغويني شفة واحدة قبلة مستعصية .." يفيض بركانها عبارة عن انزياح لغوي – الشفة الواحدة فقرة توصيلية – قبلة مستعصية انزياح لغوي. "لا أتعب في البحث عنك أتعقب الرائحة، أغرد بصمت أمامها" وهنا أيضا نجد الفقرة - لا أتعب في البحث عنك أتعقب الرائحة – عبارة عن فقرة توصيلية مباشرة – بينما الفقرة - أغرد بصمت أمامها – نجد فيها الانزياح اللغوي والتغريب. وكذلك نجد اللغة المتموّجة من خلال هذا المقطع "قدرة على احتواء الألم تنقصني الصدفة لتقرأي مستقبلي ..". لقد امتلكت الشاعرة مقدرة وقوة في الخيال على أن تخلق لنا صورا غير واقعية مشعّة والتعبير عما يجول في خاطرها عن طريق هذا اللغة المتموّجة العذبة المتسمة بالصفاء والفنية العالية وعبّرت عن همومها برسالية زاخرة بالحنين والحبّ والحياة، عبّرت عن روحها الجامحة العاشقة في جرأة وتصوير دقيق وتميّز. فكانت الشاعرة خالدة أبو خليف إضافة زاهية للسردية التعبيرية سيكون لها مكانة بارزة في هذا المجال . "غليان" بقلم: خالدة أبوخليف/ سوريا قهوتك السمراء حيرة في طعمها عبق ولذة، رائحة الهيل تشق النفوس، جوزة الطيب تحلق عاليا" أرتشف من عينيك جوابا"، يفيض بركانها تغويني شفة واحدة قبلة مستعصية، لا أتعب في البحث عنك أتعقب الرائحة، أغرد بصمت أمامها، حيرة السواقي طعم غريب قهوتك لون عينيك تنويم مغناطيسي سيدة القصر تنافس الجميع، قدرة على احتواء الألم تنقصني الصدفة لتقرأي مستقبلي، أنت مكعبات سكرها أضبطيها كما تريدين، إذا لامست شفتيك استعرت، أنت والأمان لي صنوان.
مشاركة :