فاليري: "ينبغي ان تكون القصيدة عيداً مِنَ أعياد العقل" منذ يونيو/حزيران 2015 ومجموعة السرد التعبيري لمّا تزل ترسم الجمال والإبداع الحقيقي وتعيد لقصيدة النثر هيبتها وجماليتها ورساليتها بعد أن أصابها الترهّل والابتعاد عن روحها وفكرتها نتيجة هذه العشوائية في الطباعة والنشر، وأصبحت تقدّم لنا أسماء لامعة تحلّق عاليا في سماوتها البعيدة والجميلة (السرديّة التعبيرية)، وأعلنت عن ولادة نهج وأسلوب متميّز في الكتابة ألا وهو الشعر السرديّ التعبيري، قصيدة تعتمد في كتابتها على الجمل والفقرات المتواصلة أي قصيدة الكتلة الواحدة، فحققت بفضل كتّابها ونصوصهم حالة الظاهرة الأدبية، وحققوا "قصيدة النثر الكاملة" لها أبعادها الإبداعية وخصوصيتها وتفردها. فلم يعد الفرق بين الشعر والنثر شكلياً وإنما في طريقة التعبير، فالتعبير في النثر يتخذ خطاً دلالياً توصيلياً مستقيماً، بينما في الشعر هو إشعاعي أفقي رمزي وإيحائي، وعليه فلا بدّ من تحقيق مقومات النثر من فقرات وكتابة جُمليّة متواصلة من دون تشطير أو فراغات أو سكتات في حالة كتابة قصيدة النثر. نحن نؤمن – وبيقين - أنّ القصيدة السردية التعبيرية هي قصيدة المستقبل، فلقد حققت الكثير من النجاح والتميّز عن طريق الجهد الكبير والعشق والوفاء لها والإلتزام بمقوماتها وهندستها مِنْ قِبل كتّابها، فلا نعلم أوفى وأخلص منهم للسردية التعبيرية في الوقت الحاضر، لقد أصبحت كتاباتهم مثيرة للجدل وكثر حولها النقاش، بالأمس كان الكثير يهمس ويشكّك بقدرتها على الصمود "السردية التعبيرية" والاستمرار، وحاول الكثير ويحاولون وسيحاولون رمي الصخور أمام تدفق شلاّلاتها العذبة، لكن عبثا ستفشل كل المحاولات بعد ما تحقق على أرض الواقع من نجاح وثبات وصمود ومن إصدار دواوين كثيرة كُتبت بالسردية التعبيرية وأصبح لها أكثر من موقع باللغة العربية والإنكليزية للنشر والمتابعة، وأصبح لها كتّاب من مختلف العالم (أميركا اللاتينية والشمالية وأوروبا وآسيا وفي أغلب الدول العربية). أصبح لها تواجد قوي ورائع على (الكوكل) بعد أن تمّ توثيقها ونشرها، فكل يوم نقرأ شعراً سرديّا يثير الدهشة ويستفزّنا ويقلقنا ويحتّم علينا أن نكتب عنه، ولا ننسى دور رائد السردية التعبيرية العربية الدكتور أنور غني الموسوي، فلقد أرسى قواعدها وكتب الكثير من المقالات والدراسات النقدية حول القصيدة الجديدة "السردية التعبيرية" وطُبعت ونُشرت الكثير من مؤلفاته عربيا وعالميا. غادة علوه كم وددت أن تجرف شلّالاتك أحزاني إنّ القصيدة السردية التعبيرية جعلت المتلقي ينفذ إلى أعماقها ويعيش داخل أجوائها الرحبة ويتلذّذ عذوبتها وجمالية الخيال فيها والانزياحات المدهشة وتتجلّى فيها طاقات اللغة بشكل واضح وكبير، بينما يكون الخيال فيها جامحاً يصوّر لنا عظمة الأنزياح. إنّ وقعنة الخيال مهم جدا في السرديّة التعبيريّة حيث يُطرح الواقع بلغة مجازية ويخلق اللاألفة، فالخيال المجازي مهم جدا حينما يستطيع الشاعر استخدامه في خلق أجواء غريبة بعيدة عن الواقع ذهنياً فإذا استطاع تقريبه وتصوير الواقع وصبغه بالواقعية والحقيقة يكون قد نجح في طرحه بصورة واقعية وحقيقية . سنتحدث اليوم عن اللغة المتموّجة في السرديّة التعبيريّة وجماليتها، وسنتختار نموذجين لكتابات مجموعة السرد التعبيري، غايتنا الإشارة الى هذه الاسماء المبدعة والسحر الذي يتجلّى في هذه اللغة والتأكيد على ضرورة الكتابة قدر الإمكان بهكذا طريقة ابداعية . إنّ من أهم مميّزات اللغة المتموّجة في السردية التعبيرية هو التناوب ما بين مفردات وتراكيب توصيلية وأخرى مجازية انزياحيّة يجعلها لغة متوهّجة تنفذ إلى أعماق النفس الإنسانية وتحافظ على جماليتها ورساليتها وفنيتها العالية لأنها لغة تعتمد على الخيال والواقعية. إن السردية التعبيرية استطاعت ان تخضع المجاز والانزياح إلى الواقعية والحقيقية، إنّها الجمع ما بين الألفة واللاألفة والجمع ما بين الخيال والواقع . ومن القصائد النموذجيّة في السرديّة التعبيرية والتي تكون فيها اللغة متموّجة نقرأ : "إنّي أجدني أشبهكَ" بقلم: د. غادة علوه – لبنان . "أتيتُكَ لأتنعّم بموسيقى حبّات الماء وهي تتلو آيات الهروب من الصّمت، تعلّمني الانعتاق من الخيبات نحو مساراتكَ الحالمة في بحر الكون. كم وددت أن تجرف شلّالاتك أحزاني، أن تنشل قلبي من رماد الجراح، أن تدخلني في صلاة الحرّية فأستغفر لذنب اقترافي حلماً بلا حدود. ليت شلّالاتكَ تستطيع تحرير معصميّ من دفق نار ثورتي التي لا تتوانى عن الهدوء في حضورك. إنّي أجدني أشبهك أيّها العاصيّ على الانكسار، خفقاتي مترعة بكَ، كأنّنا نلتقي قبل أن نجتمع؛ لنشكو حين نلتقي. وحين نجتمع، نسافر سويّاً في قطار الوطن، نسكن عينيه وقلبه وشفتيه وساعديه، نرسمه كما يحلو لنا بعيداً عن الأقنعة. وهو يخبرنا عن قصائد القمح الغائبة في التراب كيف تعدّ قاماتها لمناجل الحصاد، كيف تحمل أسرار الحياة الواعدة بمواسم تُنبت من كل حبة سبع سنابل على بيادر الجهد، نخبرها قصصاً مضرّجة بدماء أحلام نُحرت فأطبق القهر على أنفاسنا، دعانا للصّخب، لصرخة تنجي الروح من طعنات الصّمت. ذاك الصّمت الراقد في كؤوس الدهر، صار يرفع سيوفاً يغتال بها الحزن، يفتح أجفاننا ومساماتنا لقدوم الفرح. كم تسلّل إليّ وبعثني من جمر القهر، أسمعني حنين ناياتكَ العاصية على الحزن. هو ذا الخريف قام من بين الاصفرار، كأنّه مارد برتقاليّ يحمل فوانيس قرمزيّة تضيء ظلال الماضي، يدعونا لشمّ رائحة التراب بعد السُّقيا الأولى، فنطير ولا نحطّ إلّا في أحضان الورد، لا ننظر إلّا وجه السماء، نملأ القصائد من ماء المطر؛ لتغرق فيها مراكب الآهات على الورق، وتتألّق خفقات من عبق". لا بدّ للشاعر أن يمتلك خيالا وخيالا ابداعيا شاسعا يستطيع من خلاله تطويع الواقع وتصويره كيفما يريد، ولابدّ أيضا أن يجيد سرّ اللغة الجانحة والمتكئة على فضاءات بعيدة وكذلك الانزياحات اللغوية، كي يرسم لنا واقعا جديدا مخالفا للواقع الحقيقي ويأخذنا معه بعيدا تمطرنا لغته برذاذها وعفويتها ورقّتها. لا بدّ أن تكون لغة الشاعر بعيدة جدا عن التقريرية واللغة الشاسعة والمتداولة، لغة غير مألوفة تعبّر عن الحركية والديمومة والحياة حتى تكون لغة أدبية تستفزّ المتلقي وتبعث في نفسه النشوة والدهشة والحيرة . إنّ بداية النصّ: أتيتُكَ لأتنعّم بموسيقى حبّات الماء ../ هي عبارة عن لغة توصلية تهيء المتلقي أن يستقبل النصّ ويتعايش معه ومع لغته وانزياحاتها. يأتي المقطع المكمّل للمقطع الأول .. وهي تتلو آيات الهروب من الصّمت ../ المشتمل على الانزياح والمجاز لتحقيق لغة قوية وجمالية مبهرة. ثم يأتي المقطع الآخر: تعلّمني الانعتاق .. / وهو لغة توصيلية أيضا ليكتمل بهذه الفقرة .. من الخيبات نحو مساراتكَ الحالمة في بحر الكون ../ الزاخرة بالانزياحات واللغة الحالمة المشحونة بالعاطفة والانفعال لتثير المتلقي ولتشكّل رابطا غير مألوف ما بين الإنسان والكون. وفي مقطع آخر نجد اللغة التوصيلية: إنّي أجدني أشبهك ../ المباشرة في صنع جسر تواصلي مع المتلقي، لغة حيّة دالّة على ما تريد الشاعرة قوله، لكن سرعان ما يكتمل المقطع بهذا الانزياح غير المتوقع: أيّها العاصيّ على الانكسار ../. لقد حققت هذه اللغة المتموّجة غاياتها بسبب قوة شخصيتها وإيحائها وتأثيرها، لقد استخدمت الشاعرة جميع غايات اللغة وطاقاتها الموسيقية والتلوينية والتصويرية والتشكيلية ونقلت إلى المتلقي تجربة جديدة عن طريق بنائها وأخرجت لنا المشاعر والمعاني بثوب جديد ملموس . "سيدة الزيتون" بقلم : عبدالسلام سنان - ليبيا عبدالسلام سنان هي الكتابة لذيذة حين تُغادرني إليكِ متى يغادرك الخريف الذميم؟ أغرزُ سبابتي في أوراقه الصفراء المبللة، أكثف لك الشوق في شغف المعاني، غفا الموج على سحر صباحك الغرير، وأنتحر الشفق الدامي. هي الكتابة لذيذة حين تُغادرني إليكِ، بيد أنها جمر من الأشواق، تطوّق خنصر فؤادي، تعصر خيباته، تدمع حروف الجفاء، يتأرجح الليل على نوتة جمالك السامق، تسرقني لحظتك من جفن الحرف المكتظ بالأحلام، تنسِجُني خيطًا على وجنة القمر، ريحك تمطرني بسعفات الغياب، يعصرني مذاق الجنون، تسكبني في لجة الشوق، كيف أسري في شريانكِ الثائر؟ وأبتلُّ من عرقكِ المالح، أحبك نكهة حبر مترع على سطريَ الحاني، كجرة قلم على بياض الجنون، الفقد في عينيكِ يفضح عشقي، ظلكِ الذي يلاحقني قصيدة، يجرُّ خيبة ذُلي، سأظل أكتبكِ على آخر حبة تين، يأبى قلمي الشريد إلاّ أن ينضح بما فيه، أيقنتُ الآن فحسب، أنكِ أنتِ فراشة ضوئي، نسيتُ البارحة في جيب معطفكِ نقطة ضعفي، ووجدت في جيبي شيئا ما، وقالب حلقوم، وآثار من قوس قزح، على ناصية فنجان قهوتي الخالدة، وبقايا قبلاتٍ وبضع أنفاس وشهقات على ياقة قميصي الأبيض، ويحكِ أتلفتِ الخيط الفضي تحت أزراري، كل أحصنتي صارت منهكة، وتهالكت عربات حصاني . إن عنوان القصيدة "سيدة الزيتون" لغة توصيلية موجّهة إلى امرأة معينة معرّفة إضافة الزيتون جعل لها خصوصية وحضورا داخل حركة القصيدة، الغرضية في العنوان أن ينقل الشاعر إلينا مشاعره الإنسانية مستمدّا من خلالها كل هذا الفيض والمتعة والدهشة في لغة لامست شغاف الروح والقلب. تبدأ القصيدة بـ: متى يغادرك الخريف الذميم ../ لغة توصلية مستفهماً متى تنتهي عنّها الأيام التي غادرتها الحياة لتأتي اللغة الانزياحية ../ أغرزُ سبابتي في أوراقه الصفراء المبللة ../ حيث استطاع أن يخلق لنا لغة مغايرة وغير معهودة، لغة إيحائية تتسع متشظية عن طريق تمازج الخيال والعاطفة، وفي هذا المقطع المدهش نجد اللغة التوصيلية ترافق الانزياح بعفوية لذيذة عذبة: أكثف لك الشوق في شغف المعاني ../. نلاحظ في هذه القصيدة أن اللغة المتموّجة كُتيتْ بلغة شاعرية شفّافة تفيض من حناياها المشاعر كشلال متدفق يغمر مشاعرنا الهامدة بعدما أصابها الجدب نتيجة هذا الضجيج الذي يصكّ أسماعنا كل حين كما في هذا المقطع: تسرقني لحظتك من جفن الحرف المكتظ بالأحلام ../. وتتفجّر طاقات اللغة المشحونة بالخيال الابداعي حدّ أن نقف ينتابنا الذهول مما نقرأ فلا نتمالك أنفسنا إلاّ أن نقول / اللللللله / حيث السرديّة التعبيريّة منحت الشاعر كلّ هذا الإشراق: تنسِجُني خيطًا على وجنة القمر، ريحك تمطرني بسعفات الغياب، يعصرني مذاق الجنون. نلاحظ هنا قوّة المفردة وحسن اختيارها ووضعها في المكان المخصص لها، وهذا يدلّ على موهبة حقيقية يمتلكها الشاعر وتجربة طويلة في الكتابة: أيقنتُ الآن فحسب، أنكِ أنتِ فراشة ضوئي. هكذا يكون العطاء والوفاء للحرف، وهكذا نجد المتعة في السردية التعبيرية وهي تكتب بهذا الشكل الأفقي وبالفقرات المتواصلة .
مشاركة :