اللغة الشعرية في ديوان الشاعر الليبي مصطفى جمعة تمتلك من البوح العالي والرقيق ما يجعلها ترفّ وتحلّق.الهمس هو الصوت الخفيّ والذي لا نكاد نسمعه، والشعر الهامس هو الشعر الحيّ الذي يتدفق صافيا كالينبوع من الذات الشاعرة ليستقبله المتلقي دون عناء أو مشقة، تتميّز اللغة بشفافيتها وعذوبتها الجميلة. إنّ اللغة الشعرية في هذا الديوان تمتلك من البوح العالي والرقيق ما يجعلها ترفّ وتحلّق، نسجتها مخيّلة فنية وصوّرت خلجات النفس والواقع أدقّ تصوير بصدق وعمق. لقد منحت السرديّة التعبيريّة الشاعر مساحة كبيرة جعلته يبوح بما تكتنزه ذاكرته المتكئة على خزينه المعرفي وينفث الحياة في كلماته ويشحنها كأقصى ما يمكن من المشاعر والاحاسيس المرهفة بلغة لا تفرض نفسها غصبا على المتلقي. إن مظاهر السردية التعبيرية التي لا تعني السرد الحكائي أو القصصي، إنما تعني البوح وبعمق ونقل الأحاسيس والمشاعر العميقة للمتلقي وتعظيم طاقات اللغة عن طريق الانزياحات ونقل الإيحاء والرمزية المحببة، ومن يقرأ السرد التعبيري أولا سيتملكه شعور بأنّه يقرأ قصة ما، ولكن كلما تعمّق بالقراءة وجد اللغة تنحرف عن مسارها انحرافات عظيمة بحيث يستشعر برذاذها حين تغمره ويجد نفسه داخل النصّ ويستنشق تعبير عميق وشاعرية كثيرة مكثّفة، وزادها توهّجا الكتابة بهكذا هندسة أي الكتابة على شكل فقرات تعبيرية وأنظمة نصيّة متتالية وبشكل كتلة واحدة (الطريقة الأفقية). يوما بعد يوم تثبت السردية التعبيرية وجودها ونجاحاتها نتيجة اجتهاد وإصرار كتّابها في الوطن العربي على تقديم كل جديد وممتع ورائع من كتابات على مستوى فذّ يخلب الالباب، كل هذا وكتّابها يصرّون على التجديد والدفاع عنها كل يوم وباندفاع قلّ نظيره، يتسابقون على نشر الجمال وتلّوين حديقتها (السردية التعبيرية) بكل ما يليق بهم. واليوم سنتحدث ونشير إلى مواطن الإبداع والجمال في ديوان الشاعر الليبي مصطفى جمعة "الحلم الأخير"، وسنتناول اللغة الهامسة فيه. فمن خلال العنوان سنتلمس هذه اللغة الهامسة / الحلم – الاخير / وهذا يعني أننا أمام لغة قادمة مما وراء الحلم تهمس لنا وتتمظهر بمظاهر متنوعة ومختلفة، تتجلّى وتعتمد على: أولاً - لغة هامسة تعتمد على الالفاظ ثانياً - لغة هامسة تعتمد على المعاني ثالثاً - لغة هامسة تعتمد على الصور هل أعود الى شواطئك هل أهمس للفيروز باسمك وأُخبر الأصداف عنك ِ ... هكذا - وبهذه اللغة - يبدأ الشاعر ديوانه وفي نبرات صافية منغّمة تمتلك من الإيحاء قادرة على النفاذ تفيض عذوبة ورقّة. وسنحاول قراءة النصوص في هذا الديوان استنادا لما أشرنا له من مظاهر اللغة الهامسة. أولاً: لغة هامسة تعتمد على الألفاظ في قصيدة "أنا – الشعر – أنت" الشعر يختصر الطريق إليك، يمر عبر هاوية الصمت، ومفازات الكلام، عبر غابات الحروف المتشابكة المعاني والأصوات، عبر الخيال المستوحش من الغربة الساكنة في الظلمات، في كل طريق تؤدي لإليك، ما حيلتي وأنا لا أملك غير الكلمات أجنحة مهيضة تخفق بلا نبضات ... وفي مقطع آخر من قصيدة "كيف": كيف.. وأنا في مدى الاحتراق .. مفعم بالضوء في اكليلك المتوهج.. تريدين أن لا أشتعل؟ أليس حبا أن ينشب فيّ اللهب بأناملك فأتوهج كعود ثقاب مر بشبق الاشتعال على انحناءاتك؟ وفي مقطع آخر من قصيدة "مرايا": أنا لا أقوى على نظرات التحدى في عينيك ترسي ممزق وسيفي مكسور لا أملك إجابة علي إيماءات التساؤل المترفع في عينيك أدنى هو من الغرور لولا أن صمتي هو لؤلؤة العقد وهو الوردة المفقودة من ظفائرك. إن الملاحظ في هذه المقاطع احتواءها على مجموعة من المفردات التي تدلّ على الهمس كـ / الشعر يختصر الطريق / هاوية الصمت / غابات الحروف / الخيال المستوحش / الغربة الساكنة / أجنحة مهيضة تخفق / بلا نبضات / مدى الاحتراق / اكليلك المتوهّج / لا أشتعل / ينشب فيّ اللهب / شبق الاشتعال / في عينيك ترسي / إيماءات التساؤل / صمتي. لقد انحرفت اللغة هنا عن المباشرة وبمساعدة الخيال لدى الشاعر وحققت بهذا الهمس تجلّياته ونفذت إلى وجدان المتلقي بدون صخب أو صراخ، وببوح وتدفق ورهافة. PreviousNext ثانياً: لغة هامسة تعتمد على المعاني في قصيدة "في الطريق إليك" نقرأ المقطع: كم اخشي من ظلمة يأسي. أن لا أراك ثانية. في حين ان لا أمل ألجأ اليه.. مهدي هناك لا يزال دافئا بين يديك. توقظني حمي الحلم وانا راكع في سبات الانتظار. وفي قصيدة "الزمن": إنّهُ ذَاكَ السّائِرُ حثيثاً آخذاً معهُ الحُزنَ والفَرح.... لطالما أغْلقَ جُروحَاً وأوْقَفَ نَزْفَهَا، وجَفَّفَ دُمُوعاً طَال سَكْبهَا، كَاتباً اسْمَهُ عَلى كُلّ شَيءٍ وَفِي كُلّ طَريقٍ لَهُ عَلامَةٌ أنّهُ مَرَّ يَوماً مِن هُنا، كَمْ أَسْدَلَ حُجُبَهُ الكَثِيفَةَ عَلى وُجوهٍ أحْببنَاها، وَطَوَى فِي أَعْمَاقِهِ السَّحِيقَة أيَّاما عِشنَاها. في هذه المقاطع نجد فقرات نصيّة توحي بلغتها الهامسة وهي ترفرف كأجنحة الفراشات وتقدّم لنا بوحاً رقيقا هامسا، مقاطع توحي بأنّها أثيريّة نابعة من وجدان الشاعر، هادئة في لوحات معنوية حرّة غير مقيّدة بأي زمن أو مكان، رغم النزف والوجع لكنها تصرّ على بوحها الهامس عن طريق هذا الزخم الشعوري والعاطفة المجروحة. ثالثاً: لغة هامسة تعتمد على الصور لنقرأ هذا التدفق الغوي الجميل في مقطع من قصيدة "عواصف الهذيان": عواصف الهذيان تصرخ في أزقتي المهجورة، مُدني التي عبرتُها كالظّل تركع في الصمت، رفعت رأسي في لحظة الانكسار لعلّ طريقاً في السماء يحمل ندائي إلى النجوم، رفرَفتْ زفرات وداعٍ هائمة فوقي، ترافق حطام الريح وشفاه يابسة ماتت على أنّاتها الكلمات، يا تري تقيني عيناك صخب المدينة؟ وكذلك هذه الصور الساحرة في مقطع من قصيدة "موت في الزمن الماضي": يجلس وحيدا. وحيدا منذ سنين .. ساهِما يحدق في الفراغ.. جسده المتعب الذي أثقلته السنين وهيكله المتداعي بالكاد يحمله.. عيناه لا ترمشان. كانه يري شيئا بعيدا. بعيد هناك في أفق لا يراه أحد غيره. استند بيديه النحيلتين المليئتين بالعروق النافرة على حافة سريره المنزوى في ركن غرفته الشبيهة بالكهف يتسرب إليها شعاع من الضوء عبر نافذتها المهترئة. إنّ هذه المقاطع الشعرية قد تجلّت من خلالها اللغة الهامسة عن طريق هذه الصور الشعرية المشرقة، استطاع الشاعر أن يرسمها بعناية وتكثيف وايحاء، ابتعدت كثيرا عن السرد القصصي (الحكائي) معتمدة على فضاء السردية التعبيرية التي تقوم على أساس الكتابة النثرية والمعروفة عربيا بالكتابة الأفقية وبالفقرات والتراكيب المتواصلة السريعة إلى نهاية الجملة، حيث ينبعث الشعر الكثير من النثر وهذا ما ندعوه بالنثر وشعرية، من دون فراغات أو تشطير أو سكتات. إنّ الشاعر قدّم لنا شعراً مقنعاً وجعلنا نعيش نصوصه مستخدماً المجاز اللغوي الذي ساعده على تعظيم طاقات اللغة مما أعطاه قدرا كبيرا على التأثير والتقريب من المتلقي. وكذلك استطاع تحقيق الدهشة والجمالية معتمدا على ثلاثة عناصر: عناصر كتابية نصيّة، وعناصر التجربة العميقة، وعناصر قراءاتية. إن هذا الديوان صار إضافة جديدة إلى ما أنتجته السردية التعبيرية من نجاحات سابقة في أغلب الدول العربية، وهو فاتحة خير وإبداع جديد وجميل في الشقيقة ليبيا، نتمنى لها ولأهلنا فيها ولجميع الأدباء والمثقفين كل الخير والسلام والسمو والمزيد من الإبداع.
مشاركة :