لعل كثيرين مثلي سمعوا بـ«ليلة السكاكين الطويلة» - برلين 30 يونيو (حزيران) 1934 - باعتبارها الليلة التي تمكّن فيها الزعيم النازي أدولف هتلر من حسم الصراع على قيادة الحزب النازي الألماني، متخلصاً من كل خصومه في ليلة واحدة، ممهداً الطريق أمام أناه المتورمة ليقود بلاده ألمانيا والعالم، خلال سنوات قليلة إلى كارثة ما زالت تداعياتها السلبية لم تنمح بعد من الذاكرة الإنسانية حتى يوم الناس هذا.لكني لم أسمع من قبل بـ«سنة السكاكين الطويلة» إلا حين قرأتُ مؤخراً تقريراً صـحافياً بعنوان «لندن ساحة قتال»، نُشر في الملحق الأسبوع لصحيفة «الصنداي تايمز» البريطانية من إعداد كريستينا لامب المراسلة الحربية بالصحيفة، بشأن ما عرف إعلامياً باسم «حرب السكاكين» التي شهدتها شوارع ومناطق لندن في عام 2018، وحصدت أرواح العشرات من الشباب وثكل العشرات من الأمهات والآباء.عام 2018 الذي فارقنا منذ أيام قليلة، لم يكن سهلاً على مدينة كوزموبوليتية كلندن مفتوحة الأبواب والشبابيك على الدنيا، بتعدد لغاتها وأعراقها وازدحام نهاراتها ولياليها بالبشر من كل فج وملة، ذلك أن عشر سنوات من انتهاج صارم لسياسة اقتصادية تقشفية تحت قيادة المحافظين، كان لها تأثير بالغ على القطاعات الخدمية كافة، وفي مقدمتها القطاع الأمني، ليس في لندن فقط بل في جميع المدن البريطانية.131 حادثة قتل في لندن خلال عام 2018، أكثر من نصفها طعناً بالسكاكين وهو رقم مرتفع جداً، استناداً إلى التقرير الأعلى خلال العشر سنوات الأخيرة، وأنه كل 13 دقيقة تكون السكاكين أداة جريمة ترتكب في بريطانيا. وأن سجلات الشرطة في مقاطعتي إنجلترا وويلز دوّنت عدد 41.884 حادثة اعتداء بالسكاكين، والأهم من ذلك والأجدر بالانتباه والاهتمام، هو أن جرائم القتل طعناً بالسكاكين لم تعد مقتصرة على الأحياء الداخلية الفقيرة في المدينة، بل تجاوزتها لتطال أحياء تصنف طبقياً «الوسطى» مثل كلابهام جانكشن وأيزلنغتون وغرينتش فما الذي حدث؟ وما الذي يجعل مراسلة حربية مهمتها تقديم تغطية صحافية لنزاعات دولية مسلحة تتفرغ لإجراء تحقيق صحافي لحرب من نوع آخر وبسلاح آخر، وضحايا في عمر الزهور وساحتها شوارع وأحياء ومدارس لندن، وليس غريباً أن يكون من بين الضحايا كثيرون من أصول عربية وأفريقية.التقارير الإعلامية التي تابعت تلك الحرب المخيفة ألقت في مجملها باللوم على عمدة المدينة صديق خان، الذي بدوره حوّله نحو الحكومة وسياستها التقشفية التي أدت إلى تخفيض نسبة كبيرة من ميزانية خدمات الشباب، بلغت 750 مليون جنيه إسترليني منذ بدء تطبيق تلك السياسة في عامي 2010 - 2011. كما شمل التخفيض ميزانية قوات الشرطة التي وجدت نفسها مضطرة لتسريح نسبة من أفرادها وإغلاق عدة مراكز، وتخفيض الدوريات الراجلة في كثير من المناطق والأحياء في لندن وغيرها من المدن الأخرى. أضف إلى ذلك حروب تجار المخدرات التي لا تعرف التوقف حيث يتم تجنيد صغار السن من تلاميذ المدارس ليكونوا وقودها. وكذلك ما جلبته وسائل التواصل الاجتماعي من ضغوطات جديدة على الشباب، حتى إن المشكلات التي كانت تحدث بينهم وتحل بالعراك بالأيدي في ساحات المدارس، صارت السكاكين أداة حلها أمام أبواب المدارس لدى ساعة المغادرة وأمام الله وخلقه.عام 2018 انتهى راحلاً وغائباً في عداد السنين بكل ما له وما عليه. والدماء الشابة التي سالت جزافاً خلاله على أرصفة شوارع مدينة لندن ستنمحي من ذاكرتها بعد فترة زمنية قصيرة، لأن لندن كغيرها من المدن الكبرى بلا قلب. فقط الثكالى من الأمهات من ستتحول قلوبهن إلى ملاجئ دائمة لما تركه لهن الفقد من آلام وأحزان، وكذلك الآباء.
مشاركة :