من الأمور المزعجة والمؤسفة في آن واحد، أن المجتمعات العربية تنظر إلى الاضطرابات النفسية كـ«عيب»، فإذا أصيب فرد في عائلة ما بضيق ونرفزة أو نوبات بكاء أو هذيان مصحوب بفتور وعدم الرغبة في مخالطة الآخرين، فإن ذلك -في غالب الأحوال- يفسر على أنه «جنون»، ويوكل أمر علاجه إلى دجال يستنزف عائلة «المريض» ماديا ويزيد المريض إرهاقا فوق ما يعانيه من إرهاق. (نقلت لكم هنا قبل أسابيع قليلة حكاية خبير الحل والربط، «******» الجنسية الذي لجأت إليه سيدة ليستخدم قواه الخارقة ويمنع زوجها من الاقتران بأخرى، وبعد أن أعطاها عدة وصفات فاشلة، كل واحدة منها نظير رسوم باهظة، قدم لها الحل الناجع: مسحوق تضعه في عصير وتعطيه للزوج، وبالفعل شرب الزوج العصير، وصرف النظر عن الزواج لأنه وببساطة مات نهائيا... مسموما). المسألة في الغرب معكوسة، فالدراسات تقول ان نحو 43% ممن يمارسون مهنة ما، معرضون للأمراض النفسية، ولم يعد هناك ما يعيب في ان يعلن الإنسان أنه مصاب بمثل تلك الأمراض، بل صار ادعاء المرض النفسي حيلة للتبطُّل، وتقاضي معونة اجتماعية. تقول منظمة الصحة العالمية ان الاكتئاب يأتي في المرتبة الرابعة بعد أمراض القلب والسرطانات وحوادث السيارات كسبب رئيسي للمعاناة الصحية والعجز، وتتوقع الهيئة أنه بحلول عام 2025 سيأتي الاكتئاب في المرتبة الثانية بعد أمراض القلب مباشرة كعلة تجعل المصابين بها عاجزين عن العمل والدراسة، وتحرمهم من الاستمتاع بالحياة، وربما تحملهم على مفارقة الحياة بالانتحار، وتقدر السلطات الصحية في بريطانيا الفاقد من الانتاجية بسبب الأمراض النفسية بنحو 20-60 بليون (بالباء) دولار سنويا. لتقريب الصورة نلقي نظرة على تقرير أصدرته شركة بريتيش تيليكوم للاتصالات الشهيرة عن عام 2016، وجاء فيه أن نحو 700 من موظفيها كانوا يتغيبون عن العمل يوميا بسبب أمراض نفسية على مدار ذلك العام. ما سبب كل ذلك والحياة- ظاهريا على الأقل- صارت سهلة والعتبة قزاز والسلم نايلو في نايلو، ولم يعد معظمنا يمشي في الحر أكثر من بضع دقائق والمكيفات في كل مكان والريموت كنترول يغنيك حتى عن فتح الباب بيدك، وإعداد الطعام صار سهلا فلا حاجة للنفخ في الفحم والحطب (على الأقل بالنسبة لأهل المدن وهم الأكثر تعرضا للاضطرابات النفسية)، وكل الضروريات والكماليات التي تقلل من عناء العمل اليومي متوافرة (مقارنة بما كان عليه الحال قبل 30 سنة مثلا)؟ نعم الحياة صارت سهلة نسبيا، بمعنى ان النشاط الجسدي لم يعد ضروريا لتسييرها.. ولكن الضغوط صارت أكثر.. قبل 30 سنة لم يكن التلفون المنزلي ضرورة، واليوم صار وجود 8 هواتف جوالة في البيت الواحد في حكم «فرض عين».. الفواتير تنزل علينا مثل المطر.. والتلفزيون لا يعمل ما لم تحشوه بالنقود، ومشاهدة مباريات كرة قدم متلفزة تتطلب دفع قيمة التذاكر مقدما، في هيئة اشتراكات في قنوات فضائية معينة، وهناك أقساط السيارة.. وبيت العائلة القديم «لا يليق بنا» ولا بد من سلفة من البنك لشراء أرض ثم الشروع في البناء.. طابقين! لا، خليهم ثلاثة.. ولا بد من بركة سباحة.. ويقف بيت المستقبل متهالكا مثل معبد روماني لأن السلفة لم تسمح إلا ببناء أعمدة بارتفاع مترين.. وتسدد السلفة الأولى وتأخذ الثانية وتوظف جزءا منها في شراء سيارة تليق بمن سيسكن في بيت فاخر.. ويرتفع البناء مترين إضافيين خلال سنتين.. وذات يوم يطالعك إعلان في الصحف عن ان البنك طرح بيتك في المزاد لعجزك عن سداد القرض فتمشي في الشوارع وأنت تقول: أبو البنوك على أبو الصكوك.. ويسمعك زملاؤك في العمل وأنت تهذي فيبلغون المدير بأمرك فيأمر بفصلك من العمل لأنك مجنون، فتقضي بقية عمرك في الواتساب ويراك أقاربك ومعارفك أونلاين على الدوام فيتأكد لهم أنك مجنون رسمي ويحظرونك بعمل بلوك بالخرسانة الإلكترونية.
مشاركة :