1 أن تكتبَ مجدداً في مجلة «اليمامة»، بعد نحو أربعين عاماً، يعني أن تشتغل، بضراوة المستهام، على إيقاظ (لئلا أقول تقشير) الذاكرة، في محاولة العمل على صقل الصدأ المتراكم بفعل الزمن. غير أن ذلك التراكم الزمني، سوف يتجلى كلما شعرتَ بتاريخيته، في سياق ما يحدث على الجانبين: تجربتك الطاعنة في السن والكتابة، و«اليمامة» بوصفها جذوة تاريخ الأرض التي انبتتها. فحين تكتب في (اليمامة) مجدداً، ربما ترقب كيف أن في المملكة العربية السعودية الآن ضربٌ من إعصار التحولات المتفلت من براثنه التاريخية العتيدة، تحولات مضطربةً، وهي تحاول فهم ما يجري لها: خطوة إلى الأمام، خطوتان إلى الخلف. 2 الآن، عندما قال لي الصديق الشاعر عبدالله الصيخان: إن «اليمامة» مشتاقة لك. شعرتُ أنه يصقل قشرة الذاكرة المكنونة لدى كلينا. وشعرت، خصوصاً، أنه يسعى لرفع العتب عما تورطنا فيه جميعاً في مرحلة الثمانينيات، من أحلام استعصت على التحقق، على الرغم من انهماكنا بإخلاص في ورشتها الفتية. 3 كم أنني أحمل لثمانينيات القرن المنصرم وتجربتها الحداثية قدراً كبيراً من المحبة حدّ الوجد. وظني أننا في تلك المرحلة، من جيلنا، كنا قد بدأنا فعلياً نحسن التصرف، عملياً، بوصفنا مشروعاً ثقافياً وفنياً واحداً، وجامعاً، في عموم هذه المنطقة، دون أن نطرح، لذلك، تنظيراً أيديولوجياً لعملنا وأحلامنا ومشاغلنا الإبداعية، مثلما جاء بعد ذلك، مشروعهم السياسي الذي سموه (مجلس التعاون الخليجي). وأذكر، وقتها، أنني كتبتُ غير مرة متحفظاً ومنتقداً لفعل (خلجنة) كل شيء، بحماس منقطع النظير، فيما يعملون على تكريس وتوظيف الفعل الإنساني عموماً، والإبداعي خصوصاً، لمشروعهم السياسي / الأمني. 4 وقتها، كنا في واحدة من ذروات عملنا الأدبي، بوصف الثقافة مكنوزة بالأمل الضخم نحو فكرة التغيير، بمعزل عن المشروع الرسمي، بنقدنا له دائماً، والعمل قدر الإمكان على تفاديه غالباً. وقتها، كنتُ قد خرجتُ تواً من تجربة الاعتقال المبجلة، ومثل رفاق كثيرين، بقيتُ عاطلاً عن العمل وقتاً طويلاً باحثاً عن عمل. وقتها، كان الأصدقاء شباب الكتابة الأدبية في المملكة السعودية يصوغون تجارب الثمانينيات الجميلة، بجذوة الموهبة وقوة الأمل، ويتفاقم احتدام خروجياتهم التحديثية مع سلفيات مطلقة الشواقيل الضارية بدعم اجتماعي وسلطوي، معتمدة أكثر (موازين) الفكر الديني ظلماً وجهلاً وبدائية، وقتها. ولمن لا يعرف، أو لا يتذكر، فقد كانت الرؤى الفنية المشتركة تجمعنا بمزيجٍ عميقٍ من الحميمية والسعي الحثيث نحو مستقبلٍ يكاد يكون وشيكاً ومستحيلاً في آن، وقتها. 5 وتعبيراً صادقاً عن المسؤولية المشتركة، اقترح عليّ أصدقاء الكتابة الذين كانوا يقودون ورشة الكتابة الجديدة في السعودية، والذين يشرفون على القسم الثقافي في مجلة «اليمامة» أو يسهمون فيه، ومن بينهم الأصدقاء عبدالله الصيخان وسعد الدوسري ومحمد علوان، ومحمد الحربي، (لكي لا أذكر إلا أمثلة، خشية أن أنسى أحداً، معتذراً لهم مسبقاً). أقول اقترحوا عليّ أن أكتب لمجلة «اليمامة» كمراسل أدبي من البحرين، حيث كانت الساحة في البحرين تزخر بنشاط ثقافي بالغ التنوع، مشكلاً مصدراً فعالاً في عموم المنطقة. 6 بالطبع كان لهذا الاقتراح دوافعه الداعمة لوضعي المادي بشكل مباشر، وكنتُ رحبتُ بذلك الاقتراح (لكي لا أقول إنني فرحتُ به فعلاً). غير أن ثمة مشكلاً صغيراً كان يعوّق تحقيق ذلك الاقتراح، وهو مشكل يتمثل بحساسية اسم معتقل سياسي كانت لدى الجهات الرسمية (من البلدين) تحفظ من شأنه أن يحول دون قبول تثبيت الاسم في مجلة سعودية. ولفرط حماس الأصدقاء، اقترحوا أن يكون النشر باسم مستعار، وبمعرفة رئيس التحرير آنذاك، وهو الدكتور فهد العرابي الحارثي، الذي كان قد جاء حديثاً متخرجاً من جامعة السوربون في فرنسا، الذي رحب بالفكرة بلا تردد. وبالفعل بدأتُ أكتبُ لليمامة باسم (محمد قاسم) وأعمل تغطيات وروبورتاجات ثقافية، كما كنتُ أعمل على توفير المواد والنصوص الأدبية من الكتاب في البحرين. 7 والحق، أن تلك المبادرة الأخوية النوعية قد أسهمتْ، بفعالية، في دعمي، أنا الخارج تواً من المعتقل والعاطل عن العمل. وأذكر أنني كنت مع زوجتي ننتظر مكافأة العمل الشهرية وكنا نذهب إلى البريد متوقعين وصول الحوالة في رسالة (اليمامة) التي سيتوقف عليها مصروف العائلة الشهري. وربما أستطيع الزعم أن مثل تلك المواقف كانت تمنحني وعي الأدب والفن والثقافة بوصفها سلوكاً إنسانياً أكثر منها كتابة أو نصوصاً في ورق. ويجوز لي أن أجعله تلك التجربة في تاج الدرس الذي أعتز به، وأحفظ لهؤلاء الأصدقاء مكانة الأمل الصادق في القلب.
مشاركة :