* قد تَسْجَع الورقاأُ: قال أبو عبدالرحمن: قال (عُبَيْدُالله بنُ عبدِالله الْأَبِيْورْدِيُّ) المعروفُ ب (حافظ): لئن جاد نظمي في القريض ولم تكن جدودي فيهم يعربٌ وإيادُ فقد تسجع الورقاأُ وهي حمامةٌ وقد ينطق الْخلْخالُ وهو جمادُ ولستُ على يقينٍ بأنه صاحبُ هذين البيتين؛ ولكنَّ سياقَ (السخاويِّ) في كتابه (الضوءُ اللامع) ينصُّ على أنه كثيراً ما يتمثل بهما. قال أبو عبدالرحمن: علَّل ما قد يَبْدُرُ من جودةِ نظمه وإنْ لم يكن عربياً صليبة، ومثَّلَ بالورقاإِ؛ وهي عجماأُ، وبالخلخال؛ وهو جمادٌ؛ وفي كُلًّ وجهةُ نظرٍ؛ فأما العروبة فمجدها في الخصائص العِرْقية من ناحية الشهامةِ والكرمِ؛ وفي الموهبة من ناحية الذكاإِ الفطري؛ وفي لغتِها من ناحية فصاحتِها، ومن ناحيةِ العناصرِ الفكرية في بنائها وفلسفتها؛ (أَعْنِي فقهَ اللغةِ)؛ وفيما عدا ذلك وصفَ العروبةَ خالِقُها سبحانه وتعالى بأنها أُمِّية؛ لأنه ليس لها عِلم مدوَّن، وليس للعرب في الجاهلية خِزانات مخطوطاتٍ؛ فلما أعَدَّهم الإسلامُ لعزائمِ الأمور: أصبحوا بخصائصهم الفطرية أنْجَحَ قالبٍ للفكر والفن والمهارة.. وقِلَّة المتفوِّقين في المعارف من العُنْصر العربي صليبةً في العصور الأولى؛ وليس ذلك من وحيِ تخلُّف الموهبة؛ ولكنه من باب رسمِ سياسة الأهَمِّ فالأهم.. لقد احتاجَ العربَ زمانُهم؛ (الفاعلُ زمانُهم)؛ ليكونوا قادةً وأمراأً أجنادٍ؛ وأجناداً مرابطين في الثغور؛ ولقد نفر للعلم والفكر منهم طائفة؛ لِيفقِّهوا قومَهم حسبَ وصية الله لهم، ومن نفر منهم للعلم كان عِلْمُه عَمَلياً؛ لأنَّ الأمة تريد أنْ تفهم لتعمل، وليست تريد أنْ يُعلَّل لها لِتقْتَنِع؛ فمن هؤلاء من لم يُدَوِّن علمَه بتأليفٍ؛ ولكنَّ الفكرَ الجبارَ يختال في سيرته العملية وفتاواه؛ وفي قمة هؤلاء عبقري الأمة (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه؛ فهو ثاني الربَّانِيّْيِيْنَ بعد أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنهما وأرضاهما؛ ثم من أولئك (أبو مسهر الغسَّاني)، ومنهم من دوَّن علمه كتابة وإملاأً كالإمام (أبي عبدالله أحمد بن حنبل) رحمه الله تعالى.. لم يكتب (أبو عبدالله) كما كتب (أبو حامد الغزَّالي)، و(أبو العباس ابن تيمية) رحمهما الله تعالى جميعاً؛ وإنما دوَّنَ روايةً ومفهوماً قريباً لِلرِّواية؛ ولم تُكتب الروايةُ بتفلسفٍ. قال أبو عبدالرحمن: أشهدُ أنَّ هذا الإمام الفحل لو أراد أنْ يكتب بطريقة المفكِّرين، أو لو كان يُحِسُّ بضرورةِ العصرِ إلى ذلك: لكان من جبابرة الفكر؛ ويدل على ذلك مناظراتُه في قضيةِ خلق القرآن، وردُّه على الجهمية، وما نقله عنه تلاميذُه من ومضاتٍ في أجوبتِه على المسائل.. وقبله الإمام (الشافعي) رحمه الله تعالى: كان مفكراً واسعَ المعارِف النظرية والبشرية؛ ولكنه اِنْجَمَع على ما يخدم الدين الإسلامي؛ لأنه يريد أنْ يحرِّر مُرادَ ربه من نصوص الشرع، وليس يريد أنْ يُشار إليه بالإصبع؛ فيقال: فلانٌ العالِم، أو المفكر؛ ولقد تفضَّل عليهم ربهم فجعل ذِكْرَهم خالداً في الخالفين.. إذنْ ورِثتْ البشريةُ عن العرب أصالةَ أخلاقٍ، وصفاأَ موهبة فطرية، وعبقريةَ لغة؛ فلما انسلخوا هم عن الظرف التاريخي للأمية: ورثوا عن البشرية فكراً، وعلماً، وفناً، ومهارة، وحرفة تتميز بالطابع العربي إطاراً وقالباً، ويحكمها التصورُ الإسلامي، والسلوكُ الإسلامي مضموناً؛ فعلى سبيل المثال الواحد البسيط: ليست عبقريةُ الشعر عند (أبي نواس)، و(ابن الرومي) كفطريتِه عند (لبيد)، و(النابغة)؛ ف (الْأَبِيوَرْدِي) متواضعٌ جداً؛ لأنَّ الأحرى أنْ يكون أجود قريضاً؛ (وأعني بالجودَة العبقريةَ)، وليس التعليلَ بقولِه: (ولمْ تكن جدودي... إلخ)؛ لأنَّ هذه الجملةَ استدراكيةٌ مآلُها للاستثناإِ؛ بل التعليلُ الصحيحُ: (إنه لم يكن من يعرب وإياد)؟؛ ثمَّ أَمَضَّنِي الشاعرُ (الأبيوردي) بتعليلِه بالورقاإِ والخلخال كأنَّ السجعَ والجرْسَ منهما مستغرب، ولم يدر أنَّ الورقاأَ من فصحاء الطير، وأنَّ الخلخالَ من شُداةِ الجواهر؛ بل إنَّ الحيوانَ الناطق وعجماواتُ الطيورِ: تعلَّمت الهديلَ من اليمام كما قيل في أساطير الطوفان؛ وإنما يُستغرب أنْ تسجع البومةُ؛ ولهذا قال المصريون في أمثالهم: (أُمُّ قُوَيق عَمِلتْ شاعرةً في السنين الوعْرة).. قد تسجع الورقاأُ؟!.. إنها بالصيغةِ الدالة على التقليل؛ فياليت شِعْرِي هل للورقاإِ حِلْيةٌ غيرَ أنْ تسجع!!.. وهذا التقليل جاأَ حِلية نادرة في حياة من يقابل يعربَ وإياداً، ويشهد كتابُ (الأغاني) لأبي الفرج: أنَّ العرب ما سجعوا سجع اليمام إلا بعد الانسلاخ من عَصْرِ الأمية؛ لأنَّ الأوزان القصيرة كانتْ بالكثرة التي وُجِدتْ بها في كتابِ (الأغاني)؛ وهي ما وجَدتْ هكذا إلا بعد أنْ استجدَّ لهم ألحان؛ بل وجدوا المَلَلَ في الحُداإِ، وحمارِ الشعر، وأوجبوا الخروجَ على أعاريض الخليل لمَّا امتلأتْ دنياهم بألحان لا تستوعبها قوالِبُ الخليل.. إنَّ الطربَ في الجاهلية يحاكي دفْلَجةَ اليعْمُلات أكثرَ مما يحاكي سجع اليمام؛ إذن ليستْ القضية مباهاةٌ بالأجناس والأعراق، وقد سدَّدتُ سهامي تُصيب السويداأَ من الشعوبيِّيْيِنَ في كتابي (همومٌ عربية)؛ وإنما أقولُ في هذه العجالة: إنَّ المضمونَ الفكري العلمي الزائد على الحيوية الفطرية جاأَ في حياة العرب متأخراً بعد الأمية وعند التدوين.. استجدت الخبرةُ ولم تسْتجِد المَلَكة، واصْطَفَوا من خبرتهم الوسيعةِ العريضة صَراحَ الحق ومحضه؛ لأنَّ عندهم ثوابتَ من شرعِ خالِق الحقيقة، وعندهم مَلَكةُ التفكيرِ التي لا تُضاهَى.. وما توقَّف دَفْقُ التفوقِ العلمي المادي في أُخريات الخلافةِ العباسية إلا لِخُفوتِ العنصر العربيِّ في ذلك التراث؛ لأنه ليستْ العبرة في جمع التراث العالمي؛ وإنما العبرةُ في الانطلاق به إلى المجهول؛ والعِرْقُ العربيُّ أقدرُ على ذلك؛ لأنه جوهر الحياةِ السياسية؛ فلما اِنْمَحَتْ بصمتُه في العصور الأخيرة: بقي مذخورُ العربيِّ الفكري رياضة ذهنية كما نجد في مواقف (الإيجي)، وحواشي (التفتازاني).. مع العلم أنَّ عِلْمَ العرب في العصور الأولى منذ التدوين جَلَبَ ثقافةً يتلوها مباشرةً وبِلا مُهلةٍ تجاربُ وإضافاتٌ وتهذيبٌ وتشذيبٌ؛ وبهذا كانت وَحْدَها هي الأمة الحضارية على وجه الأرض في ذلك التاريخ.. ومما يدلك على أنَّ المضمونَ الفكريَّ العربي تغيَّر وسمق منذ عهود التدوين: أَنْ تَسْبُرَ لغةَ العرب وحدها، وتستريح باستقرائها عن الشواهد؛ فمعاجِمُ اللغة العربية التي أخذت عن الْفِطْرِيّْيِيْنَ، أو من يُسَمَّون بأهل السليقة من شاعر، وساجع، أو من مجموع قَطِيْنِ البادية؛ وإنما هي ألفاظٌ كثيرةٌ حِسيةُ الدلالةِ، وبعضُها دلالةٌ على معهودات تاريخية سابقة، وقليلٌ منها دالٌّ على مُتَخيِّل كالعنقاإِ، والسَّعْلاة.. وفي الحسيات أغدقوا مئات التسميات لموجود واحد مما يسمى بالمترادِف.. وقلما تظفر بلفظ؛ (ودعك من المترادفات) يدل على معنى ذهني غير محسوس، أو على معنى وجداني ليس من الحسِّ الظاهر؛ فلما عظمت مادةُ تفكيرهم احتاجوا إلى المواضعة على معجم آخر يباري معجمهم اللغوي؛ ألا وهو معجم المصطلحات الذي استوعبه معجما (الكفوي)، و(التهانوي)؛ وأما في العصر الحديث: فإنَّ فناً واحداً كعلم الجمال، أو علم النفس: يعزُّ عليك أنْ تجد في مصطلحاتِه الأجنبية بديلاً في معجم اللغة العربية؛ ولا سبيل لذلك إلا بتقريب المصطلح الأجنبي إلى الوزن العربي؛ (أعني صِيغَ الصرفِ)، أو بالتعبير عن المصطلحِ الأجنبي المفرد بكلام عربي مركَّب. * * ابن الأربعين: قال (أحمد بن عبدالخالق المجاصي): من حين جاوزتُ الأربعين أجدُ كلَّ سنة نقصاً في بدني وقوتي وعزمي. قال أبو عبدالرحمن: لقد أحسستُ من نفسي ما أَحَسَّه (المجاصي) منذ ست سنوات؛ فقد بدأتْ دُكاكة الظهر، وتشظِّي الركب، والْحِدَّةُ، والبرمُ، وكثرةُ الرعيَّة وأعباؤُها.. وقد ذكرَ الله الأربعين، ووصفَها ببلوغ الأشد، وقَرنَها بالأمرِ بالابتهالِ، والعمل الصالح؛ لأنه بعد الأشد يبدأ ضعف الشيخوخة والانتهاأ إلى أرذل العمر.. وقد كان أهل المدينة المنورة في غابرِ الزمان يَشُدُّون المِئْزر ويجتهدون في العبادة متأولين الآية الكريمة. قال أبو عبدالرحمن: من تجاوز الأربعين، وظلَّ في عِمايتِه: فإنما تخشى عليه الفتنةَ في الدين، والله المستعان. * * * ابن عبدالعال: اسمه أحمد فقيهٌ شافعيٌّ، وشاعرٌ فصيح؛ وهو مع هذا أُمِّيٌّ عاميٌّ، وأمثالُه في السابق كثيرٌ؛ ومن شعر هذا العاميِّ رحمه الله تعالى قوله: يا من يقولُ الشعر غيرُ مهذب ويسومني تهذيبَ ما يهذي به لو أنَّ أهلَ الأرضِ فيكَ مساعدي لعجزتُ عن تهذيب ما تهذي به ؛ وهذا مِن تَرَفِ الْجِنَاسِ، وإلى لقاء في يوم الخميس القادم إنْ شاء الله تعالى، والله المُستعانُ. * (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) عفا الله عَنِّي، و عنهم، وعن جميع إخواني المسلمين
مشاركة :