* (إيفان كارامازوف) الرَّمز الوثني: قال أبو عبدالرحمن: في كلام هذا الآثم الملحد (ألبير كامو) الذي عُني به المعاصرون؛ ولاسيما ذوو النزعة الوجودية، وأصحابُ (مجلة الآداب): ما لا يُطِيْقُ القلمُ رَسْمَهُ، ولا يطيق اللسانُ النُّطْقَ به في حقِّ ربنا سبحانه وتعالى؛ وقِراأةُ كُتُبِ (كامو) للمتعة الأدبية: ستجعل الأديبَ على مرِّ الأيام يأنس لألفاظ الكفر؛ فلا يَتَحَرَّجُ من استعمالِها؛ وإذا كثر الإمساسُ قلَّ الإحساسُ؛ وكما يَقَعُ الذبابُ على الْعَفَنِ، وكما يفرح مُفَتِّشُ الزبالةِ بِأَنْتَنِ بُقْعَة: يسقط (كامو) على إحدى شخصياتِ (الإخوة كارامازوف) لِ (دوستويفسكي)؛ وهو (إيفان فيدور بافلوفتش كارامازوف)؛ وهذه الشخصيةُ الوهمية: رَمْزٌ عند (كامو) للإنسان المتمَرِّدِ؛ لأنَّ (إيفان) يتحزَّبُ للبشر، ويُنَوِّه ببراأتِهم، ويصف (كامو) رمزَه الوثنيَّ بأنَّه يُؤَكدُ الجورَ في الحكم بالموت؛ لأنه يُثْقِلُ كاهلَ البشرِ.. إنه يدافع عن العدالة، ويجعل لها مقاماً فوق مقام الألوهية، ويُهَوِّن (كامو) من شأنِ الكفر عند (إيفان) الرمز؛ لأنه لا ينْكر وجودَ الله، ولكنه يعترض على رَبّه باسمِ قيمةٍ أخلاقية!!، وقالَ ثانية: إنَّ تجديفَ (إيفان) مُوَقَّرٌ لا يقصد إنكارَ سلطانِ الألوهية؛ بل هو اشتراكٌ في القُدْسِيات؛ وهذا الاشتراكُ: ليس هو الابتهالُ والخضوعُ لله ربِّ العالمين وخالِقهم جل جلاله؛ بل هو محاكمةٌ لِقَضاإِ الله بخطابِ النِّدِ للند؛ فتكون مقابلَةُ القساوةِ عِنْدَهُ بالتَّسَامح. قال أبوعبدالرحمن: ها هنا خَمْسُ وقفاتٍ: الوقفة الأولى أننا لا نقول: الأصْلُ في البشرِ البراأةُ وحسبُ؛ بل الأصل فيهم الفطرةُ المحبوبةُ عند الله، ثم بعد ذلك تتبدل الأحوالُ؛ فمنهم من يتمثَّلُ عهدَ الله الشرعي، ويعتصمُ به عن هوى النفس شبهاتٍ وشهواتٍ، وعن كيدِ الشيطان.. ومنهم من يتمرَّدُ على عهدِ خالِقه؛ فيكون من أهل الهلاك.. والوقفة الثانية: أنَّ العقل الذي يعيش به المتمرد مفطورٌ على معقوليةِ وواقعيةِ الْمُقايضَةِ عن آلامٍ محدودةٍ، وتكليفٍ مؤقَّتٍ غيرِ شاق، وأنَّه لا مُحالَ بنعيمٍ دائمٍ، ومُلْكٍ عظيم؛ وليس هذا وحسبُ؛ بل تتحول الآلام المحدودةُ، والتكليفُ المؤقَّتُ إلى لذةٍ ونعيمٍ إذا صدق الإيمانُ؛ وهذا شيىءٌ يعيشه الْمُؤْمنون، ويشهدون به.. والوقفة الثالثة أنَّ العقلَ الذي يَعِيشُهُ المتمرِّدُ: يشهد بالضلال والمكابرة والظلم في التمرد باللسان فقط مع أنَّ لِلمكلَّفِ حيلةً خاسِأَةً عند التمرد فعلاً؛ وذلك بِتَصَرُّفِ الله في ملكه بإحسانه وعدله. قال أبو عبدالرحمن: يَظْهَرُ لِلْمُتَمَرِّدِ من جنونه واقعٌ يملك به حتميةَ الخلود، وسعادةَ الوضعية بحرية لا يحكمها تدبيرُ الله، وفي كونٍ خارجٍ عن ملكِ الله؛ فَأَنَّى لجندِ إبليسَ أنْ يحلموا بذلك؟!.. والوقفة الرابعة أنَّ سلطانَ الله قائمٌ على الحكمة التي لا يُحيط بها المخلوق، وعلى النعمة والإحسان اللذين يجحدهما المتمرد؛ لأنه لا ينكر سلطان الألوهية؛ بل يُشارِكُ في القُدْسيات؛ وتلك دعوى كاذبة؛ لأنه لَنْ ينال من التقديس بمقدارٍ إلا مَنْ منحه ربُّه ذلك لِقاأَ اعتصامِه بشرْعِه؛ ولأنه لا مجال للمكابرة في سلطان الله من المتمرد المهزومِ بالانتحار: جسدياً، أو فكرياً، أو نفسياً؛ ولأنَّ القدسيةَ كلَّها في سلطان الله جل جلاله؛ فهو مقدَّسٌ في قُدْرَتِه، ومقدَّس في عدله، ومقدس في رحمته وإحسانه.. والوقفةُ الخامسة أنَّ هذا الْمُتَمَرِّدُ يتحامَق لا عن قناعةٍ فكرية؛ بل من أجلِ تضليلِ الآخرين: بأنه لا ينكرُ وجودَ الله، ولكنه يعترض على ربِّه باسم قيمةٍ أخلاقية!!. قال أبوعبدالرحمن: الذي يُحَدِّد القيمةَ هو العقلُ: إما تَلَقِّياً عن الشرع، وإما استنباطاً منه، وإما أخْذاً من التجرِبة.. والعقلُ منحةٌ من اللهِ؛ وهو مخلوقٌ محدود، وعنده تمامُ الإدراكِ لما يُطْلَبُ منه تِجاهَ ربِّه اعتقاداً وقولاً وفعلاً، وبه تمامُ الإدراكِ لِما يتكيَّفُ به مع الطبيعة، وبه تمام النقص عن تكييف المغَيَّبِ وما وراأَ الظاهِرَةِ؛ فهو لا يعلم من حكمةِ الله، وكونِ الله إلا ما أذن اللهُ له بعلمِه.. هذا هو تمرُّدُ الكافِر الآبق بلسانِه، المدحوضِ بوضعيةِ وجودِه؛ ومع هذا لا يخجل من الاعترافِ بهذه الحقيقة التي هي عِزٌّ ورفعةٌ وراحة للمؤمنِ، وذِلٌّ وخِسَّةٌ وعذابٌ للمتمرد؛ فيجعلُ ذا الوجودِ في لمحةٍ من الزمن، المتدرِّجِ بين ظلمةِ الرحم، ووحْشةِ القبر: نِدَّاً لفاطرِ السماوات والأرض، وبارإِ النفوسِ، والمتصرِّفِ في وضعية الكائنات.. ويصوِّر هذا النَّذْلُ (كامو) موقفَ (إيفان): بأنَّ خَلْقَ اللهِ غيرُ مقبولٍ عند المتمرِّد إنْ كان الشَّرُّ ضرورياً لِلْخَلْقِ الإلهي؛ وليس في منطقه (إياك نعبد وإياك نستعين)؛ بل سَيُفَوِّضُ أمْرَه إلى مبدإِ العدالةِ، ويصفُ قَبَّحَهُ اللهُ ربَّهُ بالإلاهِ الغامضِ تعالى الله عما يقول الكافرون علواً كبيراً؛ ولهذا يَشْرَعُ (إيفان) في الهجوم على المسيحيةِ على سُنَّةِ المتمردين الرومانْسِيّْيِيْنَ، ومعاتبةِ قضاإ الله الكوني؛ وذلك شبيهٌ بمناحةِ مُلْحدِ في شرقنا العربي هلك منذ سنوات؛ وهو (الصَّعِيْدِيُّ) الذي اِدَّعَى أنَّه (قَصِيْمِيٌّ)؛ وهذا النصُّ الذي نقله (كامو) عن (إيفان)؛ إذا كان تألُّمُ الأطفالِ مفيداً لاستكمالِ مجموعِ الآلام اللازمة للحصول على الحقيقة: فإنَّنِي أُأَكِّدُ سلفاً أنَّ هذه الحقيقةَ لا تساوي مثلَ هذا الثمن، إنَّ (إيفان) يرفض العلاقةَ العميقة التي أوجدتَها المسيحيةُ بين الألمِ والحقيقة، وَأَعْمَقُ صرخةٍ تَنِدُّ عن (إيفان) الصرخةُ التي تَفْتَحُ أَشَدَّ المهاوِي تحت أقدامِ المتمرد؛ و(إيفان) لنْ يقبل أنْ يدفَعَ ثمن هذه الحقيقةِ بالشر والألم، وبموتِ الأبرياإِ.. إنَّ (إيفان) يُجَسِّد رَفْضَ الخلاص؛ فالإيمان يؤدِّي إلى الخلود؛ ولكنه يفترض قبولَ اللغزِ والشَّر والرضا بالظلم بِدَعَوى تألُّمِ الأطفال.. لَقَدَ رَفَضَ (إيفان) هذه الصفقة؛ لأنه لن يرضى بالعون الرباني إلا إذا كان غيرَ مشروط؛ ولهذا السبب يضع شروطَه الْمُتَمِّردة؛ لأنه يريد كلَّ شيىءٍ، أو لا يريد أيَّ شيىءٍ؛ فيا للْعَجَبِ مِن هذا التناقُضِ.. وَعِنْدَه أنَّ كُلَّ ما في الكون من علم لا يساوي دموع الأطفال.. «(المتمرد) ص 73-74».. قال أبوعبدالرحمن: هذا مِثْلُ تمردِ إبليس لعنه الله على شرْعِ ربه مع معرفتِه به تمام المعرفة، والفارقُ أنَّ دافِعَ إبليسَ الْحَسَدُ، ودافعَ رمز (كامو) إنسانية مُصْطَنعَة.. والعلمُ بعدلِ الله، أو تجوِيرِه كما يفعل الكافرون: فَرْعٌ عن العلم بوجوده وقدرته وهيمنتِه وعلمه وحكمته؛ ومِن قُدْرتِه سبحانه وتعالى خَلْقُ الجنة والنارِ، وإحضارُ أهلِ السعير دَعَّاً، وما هم عنها بغائبين؛ فمن وَقَرَ في قلبه هذا الإيمانُ انقادَ لطاعة شرعِ ربه تألُّهاً ورغبةً وخوفاً، وحُبّْاً وشوقاً؛ كما أنه يجزم بصدق ربِّه إذْ نَفَى عن نفسِه سبحانه وتعالى الظُّلْمَ لعبيدِه وملكِه وخلقه؛ فإذا أوحى إليه إبليسُ بمعضلةٍ مثلِ آلام الأطفال: لم يعزب عن علمه تذكُّر حِكْمَةِ ربه التي لو أُحِيط بها لما خطر هذا الوسواس بِبالِه، وأنَّى للإنسان الضعيفِ المحدود أنْ يحيط بحكمة ذي الكمال المطلق، ونحن نعلم بيقين بمقتضى إيمان الكمال، وإيمان الربوبية، وإيمان الألوهية: أنَّ لله عدلاً وإحساناً في خلقه للأطفال وإيلامهم، وكذلك الحيوان؛ وكل ذلك بحكمةٍ سابقة، وغاية لا يحيط بها إلا عِلْمُه سبحانه؛ وإذا رفض (كامو) أو غيرُه أحكامَ التكليف (شروطَ خالِقِه): فهو حر مختار في كفره، ولكنه غير حر ولا مختار ولا قادر في الهرب عن ملك ربه، وتنفيذ مقتضى شَرْطِ ربِّه يوم الجزاإِ، ولا صبْرَ له على عذاب ربه؛ وسيرى حَتْماً يوماً تُبدَّل فيه جلود الكفار، ويتجدد عذابهم، ويتمنون الموت فلا يحصل لهم.. واسْتبدالُ الإيمانِ المنجي المحصِّلِ للفوز بهذا التمرد الأرعن: ليس سوى عبثِ مَن يريد إضلالَ الناسَ وهو غيرُ صادقٍ مع نفسه فيما يدَّعيه. قال أبو عبدالرحمن: وتحت عنوان التمرد أورد (دوستويفسكي) هذا النص من كلام (إيفان) يُخاطب أخاه (أليوشا): لقد كان في نيتي أنْ أحدِّثكَ عن آلام الإنسانية عامةً، ولكنني أحْسَبُ أنَّ من الأفضل أنْ نقتصر على آلام الأطفال وحدهم؛ ولئن كانت حجتي ستفقد من ذلك تسعة أعشار دلالتها: فإنني أظل أحسب أنَّ هذا أفضل؛ ولسوفَ تكون المناقشةُ أقلَّ مواتاةً لي بطبيعة الحال، ولكن الأطفال يمتازون على الأقل بأنَّ المرأَ يستطيع أنْ يُحِبَّهم مِنْ قُرْبٍ مهما تكن وساخَتُهم ودمامتُهم (وإنْ كنت أعتقد أنَّ وجه طفلٍ لا يمكن أبداً أن يكون دميماً)؛ ثم إنني لا أحب أنْ أتكلم عن الكُبارِ، لا لأنهم يُبْعَثُون على الاشمئزاز، ولا يستحقون الحب وحسب؛ بل لأنهم يتمتعون من جهة أخرى بتعويض؛ فهم قد أكلوا تفاحةَ شجرةِ المعرفة، وأصبحوا شبيهين بالآلهة. قال أبو عبدالرحمن: هذا هو الكفر اليهودي بعينه؛ وهو يصف الله جل جلاله بالإنسان الكبير، ويصف الإنسان بالإلاهِ الصغير، وكُلِّ تَجَمُّعٍ سري للعبث بالعقول: فعن اليهود قبل وبعد أنْ أصبحت الديانة اليهودية ديناً وضعياً شِرِّيراً بحتاً اِسْمُه (الصهيونيةُ السياسية)، وإلى لقاء في يوم الخميس القادم إنْ شاء الله تعالى، والله المُستعانُ. * (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) عفا الله عَنِّي، و عنهم، وعن جميع إخواني المسلمين
مشاركة :