هناك قاعدة معروفة في عالم الإدارة وهو أن: ” ما يمكن قياسه يمكن إدارته ” ولذلك فمن البديهي أن الاعمال التجارية التي تعتمد على ما تحققه من مبيعات سواء كان منتجات أو خدمات تكون أرقام مبيعاتها أحد مؤشراتها المهمة التي تستطيع من خلالها معرفة مستوى آدائها وتعزيزه وتحسينه , ومدى قبول منتجاتها في السوق, وإمكانية إستدامة أعمالها في المستقبل. من المتفق عليه أن الشركة ذات المبيعات الضخمة هي شركة ناجحة , وتمتلك قدرات جيدة , وموظفون أكفاء ولديها مستقبل واعد .. لكن هل يمكن ان تكون هذه النظرية صحيحة على الدوام ؟ بعيداً عن مجال الأعمال التجارية , في الحرب الأمريكية الفيتنامية ومع تزايد خسائر الأمريكان قررت الإدارة الأمريكية تعيين وزير دفاع جديد قادر على نقل منتجات الإدارة الحديثة إلى وزارة الدفاع لتكون قادرة على تحليل البيانات والتعامل معها والتحكم بها بشكل أفضل , كان الوزير الجديد “روبرت ماكنمارا” خريج كلية هارفارد للأعمال وقد عمل ريئسا تنفيذيا لشركة فورد وإليه ينسب الفضل في إصلاح الشركة وصعود مبيعاتها من خلال التخطيط والتنظيم الإاري الحديث , كان الغرض من تعيين ماكنمارا هو إدارة الحرب بطريقة إقتصادية تمكن الإدارة الأمريكية معرفة ما إذا كانوا يخسرون أم يفوزون ضد العصابات الفيتنامية غير المنتظمة. طلب ماكنمارا من القيادات العسكرية تزويده بمعلومات وبيانات تفصيلية من خلال مؤشرات معيارية رقمية تتيح له معرفة مإذا كانوا يفوزون في الحرب أو يخسرونها , و خلصت تلك القيادات إلى إتفاق على مؤشرين يعتبران أكثر المعايير الحربية شيوعا : عدد القتلى من العدو , و مدى تعاطف المدنيين مع الأمريكان. كان الفيتناميون يحاربون على شكل عصابات متفرقة وغير منتظمة مما صعب على الأمريكيين محاولة إستمالة تلك العصابات التي تحارب بطريقة عشوائية , من ناحية عملية كان قياس عدد القتلى ” المعيار الأول ” أسهل بكثير من قياس مدى التعاطف المدني ” المعيار الثاني” وأصبح المعيار الأول هو المقياس الذي يتم من خلاله تقييم آداء المؤسسة العسكرية وافرادها , وعليه تتم الترقيات والعلاوات أو العقوبات , وبالتالي أدى هذا الإخلال والإنحياز للمؤشر الأول إلى تحويله من معيار حيادي وضع للقياس إلى معزز لتغيير السلوك العسكري وبالتالي أصبح هناك دافعا للجنود لترضية هذا المؤشر من خلال القتل العشوائي , وأصبح لدى من يحصون الجثث دافعاً قويا لإدراج كل من يموت سواء كانوا مقاتلين أو ضحايا مدنيين ضمن القتلى إرضاء للمؤشر الذي من خلاله يقاس آداء المؤسسة , نتج عن هذا إرتفاع مهول في عدد القتلى من الفيتناميين , مما جعل الفيتناميون يتحدون ضد الأمريكيين , وفقد الجيش الأمريكي مصداقيته وإمكانية التعاطف معه , و إستطاع الفيتناميون تسويق الرقم الضخم من الضحايا بطريقة سياسية ذكية إستطاعت الولوج إلى الداخل الأمريكي و اللعب على التركيبية الثقافية والسياسية المتنوعة و التأثير على قرار الناخبين مما إضطر الإدارة الأمركية في النهاية إلى الإقرار بالهزيمة وإعلان الإنسحاب تفاديا لمزيد من الخسائر العسكرية والسياسية. الأعمال الحربية والأعمال التجارية تختلفان من ناحية الطبيعة السلمية لكنهما تتفقان في مبدأ الربح والخسارة , فولكس فاجن عملاق صناعة السيارات الألمانية وأكبر منتج للسيارات في العالم وقعت هي الأخرى في فخ “إرضاء المعيار الواحد” . إستطاعت شركة فولكس فاجن من الدخول إلى السوق الأمريكية لتملأ الفراغ الذي نتج بسبب إغلاق شركة فورد لكثير من مصانعها نتيجة تدني الإقبال على سياراتها التي وصفت حينها على أنها اقل جودة وأكثر كلفة من ناحية الصيانة , وأقل كفاءة في إستهلاك الوقود مقارنة بمثيلاتها من فولكس فاجن الألمانية , لكن بعدما إستعادت فورد قدراتها وبدات مبيعاتها تعود إلى الصدارة وجدت فولكس فاجن نفسها في تحد جديد , ولأجل إبقاء السيطرة على مبيعات السوق الأمريكية قامت فولكس فاجن بإنتاج أول سيارة تعمل على الديزل , و قامت بتسويق منتجاتها على أنها الأرخص كلفة والأقل إنبعاثا , وقامت بتسويق إستراتيجيتها الجديدة تحت شعار ” إنبعاثات اقل” , بينما في الخفاء تم تكليف خبراء تقنيين بتزويد هذه السيارات بجهاز سمي فيما بعد ” بجهاز الخداع” مدعوم ببرمجيات إليكترونية تقوم على مساعدة محرك السيارة على الإحساس والتمييز فيما إذا كانت في ظروف معملية مراقبة أو في وضع الإستخدام العادي في الطريق من خلال رصد السرعة , ووضعية تشغيل المحرك , وحركة عجلات السيارة ومستوى ضغطها , فإذا كنت السيارة في ظروف معملية يقوم الجهاز بتثبيط آداء المحرك ليصدر إنبعاثات أقل من مستوى الإنبعاثات العادية وبالتالي تتجاوز سيارات فولكس فاجن متطلبات ومعايير السلامة البيئية التي تفرضها الحكومة الأمريكية . لم يدم الأمر على على هذا النحو لوقت طويل , ولم تشفع لغة الأرقام الضخمة من مبيعات سيارات فولكس فاجن لتغطية الفضيحة التي بدأت خيوطها تتكشف مع مطلع الألفية الثانية , و تورطت الشركة في واحدة من أخطر القضايا القانونية واكثرها كلفة إذ بلغت خسائرها ما يقارب 29 مليار دولار . يقول إدوارد ديمنج العالم الأمريكي الشهير ومؤسس مفهوم الجودة الشاملة : “إن التركيز على الارباح و النتائج ذات المدى القصير والإدارة على أساس الكم فقط هي إثنان من أخطر الأمراض التي تقتل الأعمال التجارية ” . وجود معايير أحادية ضعيفة قد تبدو اكثر سوءا من عدم وجود معايير على الإطلاق , إذ أن الإعتماد على معيار واحد ( معيار البيع مثلا) قد لا يعطي نتائج صادقة وقد يؤدي الضغط المتزايد لتحقيق هذا المعيار إلى تغيير السلوك الجماعي للمنظمة والدفع بالافراد أو حتى الكيانات إلى تشويه النتائج من خلال تزييف الارقام أو القيام بممارسات غير مهنية أو غير أخلاقية يسئ إلى المؤسسة والمجتمع الذي تعمل فيه وقد تكون النتائج كارثية على الإقتصاد الوطني و السلم الإجتماعي بشكل يصعب إحتوائها. من جانب آخر لا يمكن النجاح في أي عمل مؤسسي ما لم يكن هناك معيار لقياس الآداء ” فما لا يمكن قياسه لا يمكن إدارته ” والحل يكمن في إيجاد عدد متنوع من المعايير تكون أكثر شمولا في تطبيقها وأكثر تنوعا في طبيعتها لتعطي دلالات أكثر صدقية وواقعية تمكن صاحب القرار من التعامل معها , فعلى سبيل المثال حينما يكون مؤشر المبيعات ومؤشر التسرب الوظيفي كلاهما مرتفعهان فهذا يعطي دلالة واضحة على ان بيئة العمل ليست نزيهة وغير مشجعة و ربما تكون هناك دلالة على شبة فساد إداري وممارسة إنتقائية في توزيع مكافآت الشركة , بينما يسبب الإعتماد المفرط على مؤشر البيع وحده على قراءة إيجابية لكنها بكل تأكيد مغايرة ومختلفة لما قد يتكشف لاحقا. خلاصة القول .. يظل مؤشر المبيعات أحد المؤشرات المهمة, ولضمان بقاء هذا المؤشر حياديا يجب أن تضاف معايير أخرى لقياس مستوى إلتزام المؤسسة بالمعايير الأخلاقية والمهنية ومدى إلتزامها أيضا بالمسؤولية الإجتماعية , على أن تتولى إدارة متابعة هذه المعايير لجنة مستقلة تستقي صلاحياتها من مجلس الإدارة مباشرة وأن تكون توصياتها لها من الفاعلية والقوة والتأثير على الإدارة التنفيذية , يبدو هذا مطبقا في العديد من الشركات الكبيرة والعملاقة , لكن أغلب الشركات المتوسطة والعائلية مازالت ربما تفتقر لمثل هذا التنظيم , وهنا يقع على القطاع الحكومي المعني بهذا الشأن مسؤولية تعزيز هذا الإتجاه وجعله شرطا اساسياً للدخول في المناقصات الحكومية , فمن ناحية سيتولد عن هذه المبادرة خلق وظائف جديدة للمواطنين السعوديين ومن ناحية أخرى يمكن إعتبارها معزز للرقابة الإجتماعية على بيئة الأعمال ضد كثير من الممارسات الإدارية المشبوهة والفاسدة في كثير من الشركات , وهي خطوة ستعزز بيئة العمل لتكون أكثر مهنية وجاذبية. *كاتب سعودي
مشاركة :