الشارقة:محمدو لحبيب في بلاد توصف بأنها بلاد الشعراء المليون، يبدو منطقياً أن لا يتم الاحتفاء كثيراً بالسرد الروائي وبالأشكال الأدبية الحداثية الأخرى، فموريتانيا الدولة العربية الإفريقية الواقعة على المحيط الأطلسي، وبين بحرين بحر من الماء وبحر من الرمال، لم تعرف إلى وقت قريب شكلاً أدبياً أكثر تسيداً للمشهد الثقافي هناك، من الشعر العربي الفصيح والمحلي، لكن الزمن دار بعجلته، وتنامى في الفترة الراهنة ظهور السرد الروائي، وأصبحت الرواية الموريتانية متميزة بحضورها. والسؤال الذي يطرح نفسه في ظل الذائقة الشعبية التي تمجد الشعر وتعتبره أرضاً مقدسة لا يمكن أن يلوثها شيء آخر، هو لماذا تأخرت الرواية في تسجيل حضورها هناك، وهل يمكن أن تغدو مقبولة ومقروءة على مستوى الكم كما يقرأ الشعر ويمجد هناك؟ إن البيئة الموريتانية هي بيئة مشجعة على السرد بكل تفاصيلها، ذلك ما يمكن للمتأمل أن يلاحظه فوراً في تفاصيل الجغرافيا والأنتروبولوجيا، وترسيمات الحياة هناك، فعلى امتداد آلاف الكيلومترات التي تصل للمليون كلم مربع، توجد حكايات عديدة امتزجت فيها مقومات الثقافة العربية بنظيرتها الإفريقية، وتداخلت فيها الأساطير القديمة، وحكايات النهر الإفريقي، مع روايات البحارة وعوالمهم في ضفاف المحيط الأطلسي، مع حياة الرجل الصحراوي العاشق للانطلاق خلف قرص الشمس في رحلة تمتد حتى الغروب بحثاً عن الكلأ والماء والنار. بيئة سردية متكاملة يمتزج فيها الغرائبي بالواقعي، وتتعايش فيها بشكل مزركش عدة أنماط من الثقافات، تشكل في مجملها مادة ثرية متوفرة بسهولة لأي سارد، لكن تلك البيئة السردية وذلك الفضاء المشجع على الحكاية لم يغر الكثيرين في البداية على خوض التجربة، فاقتصرت الروايات الأولى على رواية «الأسماء المتغيرة» و«القبر المجهول» للشاعر والكاتب اليساري المعروف أحمدُ ولد عبد القادر، ويمكن القول إن ولد عبد القادر في روايته «الأسماء المتغيرة» لم يكن روائياً بالدرجة الأولى أو إنه لم يكن حريصاً على أن يكتب رواية لأن الفضاء كما أسلفنا لا يشجع على السرد، بل تعمد أن يكتب روايته تلك لتسجيل نضال حركة الكادحين اليسارية المعروفة منذ بدايات استقلال الدولة الموريتانية سنة 1960م، وحتى الانقلاب العسكري على الحكومة سنة 1978. أما في روايته «القبر المجهول» والتي صدرت في الثمانيات من القرن الماضي، فقد اهتم ولد عبد القادر بالغوص أكثر في عمق تراتبية المجتمع، وتحولاته الفئوية، واهتم بالحكاية في معناها الايتمولوجي، فاستعرض حكاية «العرب» و«الزوايا»، و«لفركان»، والبنى الصحراوية كلها تقريباً، وحاول إعادة تفكيكها من خلال حكاية سردية خالصة. غير أن المفارقة التي نقف أمامها أثناء تتبعنا لمدى استقبال الشكل الروائي لولد عبد القادر، هي أن الذائقة الشعبية تعرفه كشاعر مبدع أكثر مما تعرفه كروائي، فهو الذي تتغنى كل الأجيال بقصائده وأشعاره في حب الوطن، وفي التغني بالقومية العربية، وبقضيتها المركزية قضية فلسطين، إلا قلة هي من قرأته كروائي. وفي زمننا الراهن تعددت الروايات وظهرت أسماء عديدة من بينها الدكتور موسى ولد أبنو، والكاتب والصحفي امبارك ولد بيروك، واللذان يشتركان في أنهما كتبا باللغة الفرنسية ولاقت رواياتهما انتشاراً في فرنسا وفي النخبة الفرانكفونية الموريتانية أساساً، غير أن الدكتور ولد أبنو قام بإعادة لكتابة بعض رواياته باللغة العربية، فروايتيه «مدينة الرياح»، و«الحب المستحيل» ظهرتا أولاً باللغة الفرنسية، ثم كان ظهورهما بعد ذلك بفترة بالعربية، وقد نجح ولد أبنو عبر سرده المتواصل حتى الآن، والذي كان آخره رواية «حج الفجار» في أن يلامس الذائقة لدى المتلقي الموريتاني وحتى العربي الذي اطلع على سرده، وذلك لتمكنه من ناصية اللغة، وعمقه الفلسفي. وقد يقول قائل إن ولد أبنو لم ينجح في اختراق حاجز التهميش للسرد الروائي في موريتانيا، إلا عبر استدعاء مكونات الثقافة الموريتانية التي تمجد الكلام العربي الفصيح، وأنماطه البلاغية، إضافة إلى تعظيمها للغة القرآنية بحكم تدينها والتي تحتفي بأي قبسات منها ضمن الأشكال الأدبية. فولد أبنو اعتمد في رواياته كلها على استدعاء القصص القرآني وعلى الاهتمام بتفصيح الأشياء الشعبية والمصطلحات المتعارف عليها حتى برغم اعتماده تقنية كتابة الخيال العلمي، وربما نجح من خلال ذلك في الاقتراب من ذائقة الناس، ليس لأنهم يقبلون السرد أو صاروا يقبلون وجوده في مكانة متميزة كما الشعر، ولكن لأنه خاطبهم بما يفهمون ويقبلون كسياق أدبي. المحاولات السردية الروائية الشبابية هي الأخرى تحاول أن تظهر في إطار متحرر من تلك القولبة الجامدة التي وضع فيها السرد، ومن أنماط التقييمات الشعرية له، أو التقييمات التي تربطه فقط بالفصاحة في اللغة وغير ذلك من الشكليات. فجاءت روايات كتاب من أمثال الدكتور محمدو ولد أحظانا، ومحمد ولد محمد سالم، ومحمد فاضل عبد اللطيف، والمختار السالم أحمد سالم، ومحمد ولد أمين، و الشيخ نوح وغيرهم، متمردة في معظمها على تلك التصنيفات المسبقة، ومتوخية الكتابة السردية لوجه السرد ودون أن يفكر كاتبها أصلاً في إرضاء ذائقة المجتمع المصممة على مقاييس الشعر والشاعرية بشكل متوارث وقديم. إن روايات «هجرة الظلال»، و«دحان»، و«تيرانجا»، و«موسم الذاكرة»، و«منينه ابلانشيه»، قد تكون مجرد بدايات، وقد توجه إليها ملاحظات نقدية على المستوى الفني أو السردي الخالص، لكنها نجحت في توطيد مكانة السرد، وأعطت الفرصة للقارئ لكي يعيد اكتشاف كل ما كتب قبلها، دون أن يتأثر بالنظرة الاجتماعية التي كانت لا تفسح لغير الشعر مكاناً في الاعتبار الأدبي عندها، وربما قريباً يصدق القول بميلاد زمن السرد الموريتاني برغم أنف الشعر الغالب على المشهد هناك.
مشاركة :