بداية، هل هو انسحاب كامل أم جزئي أم تكتيكي؟ لا أحد يعلم بالضبط ولا حتى المخابرات الأمريكية التي صرح مسؤولها أكثر من مرة: «سننتظر ونرى!»، ولاسيما أن بوتين قال بعد إعلان الانسحاب بيومين: أن الدعم بالسلاح للحكومة بدمشق مستمر.. قال بوتين أيضا: باستطاعتنا العودة عسكرياً لسوريا خلال ساعات إذا لزم الأمر.. فيما أوضح الكرملين أن روسيا ستقلّص وجودها وستُبقي بعض القوات في سوريا. أما القاعدتان العسكريتان اللتان أنشأتهما روسيا مؤخراً فستظلان باقيتين. أمام هذا الوضع المزدوج، كيف نحلل حالة الانسحاب المفاجئ الذي بدأ بتدخل لا يقل مفاجأة؟ هناك مفهوم باللغة الروسية ربما يساعد في وصف هذه الازدواجية: «پوكازوخا»، تعني: واجهة أو تزيين النوافذ، وهو أمر يعرفه بوتين حقّ المعرفة ويعلم كيف يبنيه، حسبما كتبت آنا بورشفسكايا... يقول المثل الروسي الذي أطلقه بروتكوف في القرن التاسع عشر: «إذا رأيت اسم جاموسة على كهف فيل، فلا تصدق عينيك». وعندما أعلن بوتين نهاية العمليات العسكرية في سوريا أصبح يمكننا أن نطبق مقولة بروتكوف حسب رأي محلل في قناة سي إن إن، في ظل قرارات بوتين التي تفاجئنا المرة تلو الأخرى. وإذا كان كثيرون رحبوا بالانسحاب الروسي كدفعة جيدة لمفاوضات السلام ووقف الأعمال العدائية في سوريا، فإن المثل العربي لصاحبه المتنبي يقول «إذا رأيت نيوب الليث بارزةً، فلا تظنن أن الليث يبتسم.» في غمرة التحليلات عن أسباب الانسحاب الغريب للقوات للروسية، ذهبت الاستنتاجات شذر مذر وتعقدت.. بعضهم أكد أن انخفاض سعر النفط خلال العام الماضي الذي أدى إلى انكماش اقتصاد روسيا بنحو أربعة في المئة هو السبب الرئيسي. آخرون فضلوا الاستنتاج السلمي بأن روسيا انسحبت من أجل الوصول إلى حل سياسي بقيادة الأمم المتحدة حسب الاتفاق بين أمريكا وروسيا. هناك من أشار لمسألة جيوسياسية مهمة بأن قرار الرئيس الأمريكي بنشر ألوية قتالية دائمة في دول البلطيق وأوروبا الشرقية على طول الحدود الروسية، شكل قلقاً مزعجاً لروسيا مما دعا بوتين للانسحاب من سوريا من أجل تركيز القوات الروسية تجاه القوات الأمريكية على الحدود بين الناتو وروسيا. لكي نسهل مهمة التحليل ينبغي العودة للأساسيات، فلمعرفة سبب الانسحاب لا بد أن نعرف أسباب التدخل من الأساس. يقول بوتين: إن سبب انسحاب القسم الرئيسي للقوات المسلحة الروسية هو أنها قد حققت أهدافها. فما هي أهدافها؟ هناك أهداف معلنة، وأخرى غير معلنة إلا نادراً في القنوات أو اللقاءات الروسية المحلية التي تكون بعيدة عن أنظار المحللين. أهم هدف معلن رسمياً هو هزيمة داعش باعتبارها تشكل تهديدا لأمن روسيا بما أن هناك نحو ستة آلاف روسي انضموا إلى داعش حسب تبريرات الكرملين.. بينما أغلب المصادر تؤكد أن الرقم أقل كثيراً من ذلك. هذا الهدف المعلن ليس فقط لم يتحقق بل إن التهديد الداعشي للأمن الروسي الذي كان افتراضياً أصبح فعليا.. فتنظيم داعش بدأ يستهدف بالفعل مدنيين روسا انتقاماً للتدخل الروسي المباشر في الحرب الدائرة في سوريا.. أوضحها إسقاط طائرة الركاب الروسية في مصر أكتوبر الماضي الذي يعزى إلى خلية تابعة لتنظيم داعش. يبدو جلياً أن هذا الهدف المعلن غير جدير بالتصديق، فالغالبية العظمى من الغارات الجوية الروسية في سوريا قد شُنت ضد المعارضة السورية والثوار الذين يقاتلون نظام بشار الأسد، وليست ضد تنظيم داعش. إذن، هناك أهداف غير معلنة. أهم الأهداف غير المعلنة تتمثل في حماية النظام السوري الذي كان على وشك السقوط، ووضع قواعد عسكرية روسية في سوريا لاستعادة نفوذ روسيا «السوفييتية» في المنطقة بعدما فقدتها. بوتين نفسه قال لعدد من الجمهور الروسي المحلي حسب سي إن إن: «إن الهدف كان المحافظة على السلطة الشرعية»، وهو نظام بشار الأسد وفقا له. وفي ظل الغياب الأمريكي تظهر روسيا اللاعب رقم واحد في المنطقة وتستعيد نفوذها القديم. إذا كان إنقاذ الأسد وتأمين مصالح روسيا هما الهدفان الحقيقيان للتدخل العسكري المباشر في سوريا، فهل تحققا؟ نعم، ولكن نسبياً ومؤقتا. فالنظام السوري نجا من السقوط لكنه لا يزال مترنحاً، والبقاء الروسي تحقق فعلاً في المنطقة لكن تكلفته عالية في ظل الأزمات الاقتصادية التي تعانيها روسيا. ويظل الاستفهام باقياً: هل أن روسيا انسحبت من موقع قوة وعبرها تبعث رسائل للمعارضة المحلية والدولية لبقاء بشار الأسد والاعتراف به كشريك، والإقرار الدولي باستعادة النفوذ الروسي في المنطقة؛ أم أنها تنسحب من موقع ضعف نتيجة التكلفة الاقتصادية والخشية من تواجد القوات الأمريكية حول حدودها؟ بما أن الإجابة معلَّقة، فضل بعض المحللين الجادين الخروج من تحليل السلوك الرسمي للإستراتيجية الروسية، والبحث من خلال تحليل شخصية بوتين وليس فقط السلوك الروسي الرسمي.. أي شخصنة الحالة، ولاسيما أن التحليلات الإستراتيجية نفسها غالباً تتحدث عن بوتين أكثر مما تتحدث عن روسيا لمعرفة المناورات السياسية التي يخطط لها! بوتين يعمل على إظهار نفسه كقائد كاريزمي لدولة عظمي: كرجل سلام وكرجل حرب قادر على إنجاز مهامه. فأنت لا تتصفح موقعا سياسيا دولياً إلا وتجد بوتين في الواجهة يومياً.. وإذا كان بوتين أظهر نفسه لغالبية الروس، كقائد يُعلي مكانة روسيا ويعيد أمجادها كأكبر ند لأمريكا.. فإن الورطة هنا هي في رغبته بإظهار بشار الأسد المنبوذ كشريك مقبول، رغم أن بعض التصريحات الروسية الرسمية التي تطلق بين حين وآخر تظهر عدم تمسكها الشديد برئيس مرفوض في أغلب الأصعدة محلياً وإقليمياً ودوليا. الورطة الأخرى حسب تحليلات داخل روسيا تشتكي بأن بوتين يفكر فقط في السياسة الخارجية، منذ اجتياح أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم قبل عامين، حين كان الاقتصاد قويا بسعر النفط فوق مئة دولار للبرميل.. الآن أثرت هذه السياسة الخارجية على الوضع الداخلي، وخسر الروبل أكثر من نصف قيمته.. يبدو من كل ذلك أن روسيا غير قادرة على استمرار كثافة تدخلها العسكري في سوريا، لكن غير مستعدة للانسحاب الكامل، ففضل بوتين اختيار الأمر الوسط، وهو انسحاب جزئي لتخفيف الكلفة الاقتصادية التي تفاقم الأزمة المالية الداخلية في روسيا.. مقالات أخرى للكاتب القبيلة تعود من جديد..! هل تندمج إيران مع المجتمع الدولي؟ الاقتناع بالتحول الوطني التحول الوطني وقفزة النمر الآسيوي تجارة الجهل مزدهرة
مشاركة :