الحملات المنظمة على التراث الإسلامي لم تنقطع في أي مرحلة من مراحل التاريخ، وتستهدف هذه الحملات ضرب المكون الفكري للأمة الإسلامية، ولعل المستشرقين هم أبرز أولئك الخصوم الذين حاولوا تشويه صورة التعاليم الإسلامية بالتحريف والاجتزاء وتأويل الكلام وتغيير مقصد الخطاب حتى يزهد الناس في مفاهيم الشريعة الإسلامية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. إن هذه الحملات المنظمة على ضراوتها وخطورتها لم تستطع أن تؤثر في صورة الإسلام عبر التاريخ إلا بشكل محدود، وذلك لأن سلوك هذه الطريقة ينكشف بسهولة، ويدرك الناس حين ينفتحون على الحقائق حجم العبث الذي يمارسه هؤلاء على أحكام الشريعة وأصولها، ويدركون بفطرهم السليمة، ومعرفتهم الطبيعية للدين، وأثره على قلوبهم وأعمالهم، وقيمته في حياتهم حجم التضليل الذي يمارسه خصومه ويحاولون جاهدين تشويهه. وكان من الاستراتيجيات التي يبذلها خصوم الإسلام والساعون إلى تشويهه ضرب المرجعيات العلمية من خلال الربط الشرطي بين علماء الإسلام وبين مسائل مكروهة عند الناس كالإرهاب والتكفير والدماء واحتقار المرأة، وعدم المساواة بين الناس، وغيرها. والتاريخ المعاصر يشهد كثافة في هذه الحملة على علماء المسلمين، والمقصد ليس العالم ذاته وإنما من خلاله يتم هدم المرجعية الدينية ومن ثم سهولة اختراق عقول الأتباع وتوجيههم إلى أفكار بعيدة عن الأديان كالإلحادية والعلمانية الشمولية وغيرها. ومواقع التواصل الاجتماعي تشهد في هذه المرحلة حملات مكثفة لخلفاء المستشرقين، إذ البيئة المعاصرة صالحة لمثل هذه الدعوات، فوجود الجماعات والتيارات المتطرفة والإرهابية الغارقة بالتكفير وإزهاق الأرواح وتفجير الآمنين والممتلكات وما يصاحب ذلك من سهولة عرض تلك الجرائم عبر الإعلام الجديد الذي ينتشر في الناس انتشار النار في الهشيم، تأتي حركة التشويه المتعمدة بربط هذه الجماعات والتيارات بالسلفية تارة، وبالسنة تارة، وببعض العلماء تارة أخرى، فيجدون من يتلقف تلك الدعوات ويقتنع بها ثم يصاب بردة فعل عكسية تجاه الدين وعلمائه وتاريخه. كان من أبرز ما حدث خلال الأيام الماضية إحراق الطيار الأردني على أيدي تنظيم "داعش"، الذين برروا فعلهم بأن هناك فتوى لبعض العلماء منهم ابن تيمية وابن حجر وغيرهما في جواز الإحراق، في توظيف خبيث لكلام العلماء في تبرير فعل شنيع ومحرم لا يمكن لهؤلاء العلماء المتأصلين بأصول أهل السنة إباحته بأي حال من الأحوال، وقد فرح بهذا الأمر ثلة من المترقبين لمثل هذه الحالات ليصفوا خصوماتهم الأيديولوجية في طريقة مستفزة و"أهوائية" وغير علمية، محاولين الربط بين ابن تيمية وداعش وأنه يشكل الأرضية والخلفية لهم، وغاية الأمر في هذا هو ضرب المكون العقدي، وكل ذلك باسم محاربة ومجابهة "الإرهاب" تماماً كما يفعل خصوم الإسلام حين يحاولون جاهدين إلباس الإسلام لبوس الدين المتعطش للدماء والمهدر لكرامة الإسلام وحقوقه، ويمكن بعجالة مناقشة هذه الدعوى بنقاط عدة: الأولى: أن هؤلاء لم يفرقوا بين مقام "التأصيل الشرعي" وبين مقام "الفتيا"، فمقام التأصيل يناقش فيه العلماء المسائل النظرية بعيداً عن التطبيقات، وينظرون إلى الأمور بتجريد بعيدا عن توظيفات أقوالهم لصالح تيارات سياسية أو فكرية، فحين يناقشون قضية "الإحراق" لم يخطر ببالهم الصورة التي فعلها داعش ولا يمكن أن يقروها لما يعرف عنهم من رفض لمنهج الغلاة، وتحريمهم لدماء المسلمين، وإنما يناقشونها من خلال: أ- المماثلة في القصاص، فما الحكم لو أن رجلاً قتل رجلاً إحراقاً، فهل يقتل قتلا طبيعا أو يحرق من باب المماثلة وتحقيق العدالة في القصاص، لأن الله يقول: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم"، فهل هذه المثلية تبيح الحرق؟ هذه قضية فقهية أصولية يختلف فيها كلام أهل العلم في جواز إحراق من أحرق القتيل أم الاكتفاء بالقتل. ب- في حال الحرب، إذا ما أحرق الأعداء من الكفار بعض المسلمين، هل يجوز معاملتهم بالمثل؟ والجمهور على تحريم ذلك لأن الصحابة قُتل أطفالهم ونساؤهم ومع ذلك لم يفعلوا بأعدائهم هذا، بل نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل النساء والأطفال وجعل ذلك من المحرمات القطعية في الشريعة. الثاني: أن الخلاف مع هذه التنظيمات الإرهابية الغالية خلاف أصولي مبدئي، فهو خلاف في المنطلقات العقدية والفكرية التي ينطلق منها هؤلاء من تكفير الناس والتوسع في الدماء وعدم التحاشي منها، ولذلك يوظف هؤلاء كل نص أو قول أو رأي أو فتوى لتطمين أتباعهم بشرعية ما يفعلون، فيعملون البتر، والتأويل، ونزع الكلام من سياقه، وترك أقوال العالم الأخرى التي تنقض أصولهم، والتشهي في نقل كلام العلماء، وهذا الأمر لا يفعلونه فقط حينما يرغبون تحريق مسلم يقول لا إله إلا الله، وإنما يفعلونه في كل قضية عملية ومنهجية يرون أنها تخدم مشروعهم السياسي والفكري، ولذلك فإن من الخطأ أن نتبعهم في طريقتهم ونصدقهم في دعوى اتباعهم العلماء كابن حجر وابن تيمية وغيرهما، إذ لو كانوا صادقين لأخذوا كذلك بفتاواهم وتأصيلاتهم في عدم الخروج على جماعة المسلمين، وتحريم استحلال الدماء، وذنب وجرم التكفير لأمة المسلمين، وعدم الاطراد في أفعالهم وأقوالهم، والانتقاء في أخذ كلام العلماء يدل على نزعات الهوى المستحكمة التي تثبت توظيفهم للتراث بما يخدم أفكارهم وإنكار وترك ما ينكد عليهم وينقض منهجهم. الثالث: إن الذين يستغلون استدلال داعش واعتمادهم على فتاوى العلماء يتركون جادة العدل والإنصاف والعلمية والموضوعية في تناول عالم من العلماء بالنقد، فإن ميزان العدالة يقتضي حين إرادة الحكم على قول رجل أو فعله أو منهجه أن ينظر إلى فكره بشمولية دون اجتزاء لأقواله وبترها وعدم ضمها إلى غيرها، فابن تيمية مثلاً له من التأصيلات في تحريم التكفير، ورسم معالمه وضوابطه، والحث على الجماعة وترك الفرقة، ونقض أصول "الخوارج" الفكرية والسياسية، والتحذير من مسالكهم وأفكارهم ما ينقض أصول هذه الجماعات ويكشف زيف أفكارهم ودعاواهم، فأين خصومه عن تراثه العظيم الذي تفرد به كماً وكيفاً عن بقية العلماء؟ وأين الكلام عن الجوانب المضيئة من البعد "التسامحي" في فكر ابن تيمية، وعفوه وصفحه عن خصومه في الوقت الذي مكن من الانتقام لنفسه، بل إن خصومه كانوا يحرضون عليه الحكام، فقد قال ابن فضل العمري عنه: (اجتمع عليه عصبُ الفقهاء والقضاة بمصر والشام، وحشدوا عليه خيلهم ورجلهم، فقطع الجميع، وألزمهم الحجج الواضحات أيّ إلزام، فلما أفلسوا أخذوه بالجاه والحكام)، ولما انتصر الله له وأراد السلطان قتل خصومه، ذهب إليه ودافع عنهم وأثنى عليهم وطلب العفو والصفح عنهم، وقال: (إن قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم من العلماء الأفاضل)، وحين قال له السلطان إنهم آذوك وأرادوا قتلك قال: (من آذاني فهو في حل، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي). هذا هو ابن تيمية في سلامة صدره وتسامحه ورقيه، فكيف بعد ذلك يقال إنه يؤصل لهذه الوحوش البشرية أفعالها الشنيعة المستنكرة؟!
مشاركة :