بقلم: منصور ماجد الذيابي عندما نستعرض سمات القصيدة العربية في الأدب العربي سنجد أن الشاعر العربي يستلهم قصائده من ظروف الحياة المختلفة وأيضا من معاناته التي تشكلت نتيجة لتلك الظروف. فمنهم من قال الشعر في الرحيل أو الهجرة عن الموطن الأصلي ثم الاشتياق للعودة الى الديار مرة أخرى. وكما ذكرت في مقال آخر بعنوان ” دور الشعر في ابراز مفاهيم دينية وثقافية للمجتمع”، فقد وصف شعراء آخرون محاسن العرب وصفاتهم وبطولاتهم وغزواتهم. بينما قال البعض الشعر في رثاء الأصحاب وفراق الأحباب وشجون الحياة وأحزانها. في هذا الجانب تحديدا استخدم الشعراء الكثير من الصور الشعرية التي تعبر عن انفعالات الانسان وعاطفته تجاه ظروف قاسية عانى منها كثيرا وساهمت بطريقة أو بأخرى في انتاج أفكار وتصورات قد تصل الى حد الأسطورة كما أوضحت كذلك في مقال سابق بعنوان ” انتاج الأسطورة في الأجناس الأدبية”. غير أنني سوف أبحث في هذا المقال عن جزئية محددة تتعلق باستخدام الشعراء لمفردة عربية واحدة استخدمها الشعراء كثيرا للتعبير عن تلك الظروف القاسية والأهوال المفاجئة، وهي مفردة ” الدموع”. قبل اقتباس نماذج من تلك القصائد التي تعكس مدى تأثر عاطفة الانسان وتجعله مندفعا للتفاعل وجدانيا مع الأحداث، سوف ألقي الضوء بداية على الأسباب الفسيولوجية والسيكولوجية التي تحرّض الغدة الدمعية على افراز الدموع بغزارة. نعلم جميعا أن أي إصابة للعين ستجعل العصب البصري يضطرب نتيجة الإصابة وبالتالي سيحفز هذا الاضطراب الغدة الدمعية على ذرف الدموع كمحصلة للتفاعل المفاجئ داخل العين. ومثال آخر لتلك الأسباب هو الغاز المسيل للدموع الذي يستخدم لتفريق المظاهرات، وكذلك الدخان المنبعث من الحرائق أو النظر الى الاجسام المشعة بالضوء ونحو ذلك من المؤثرات الخارجية التي تؤدي الى افراز الدمع من العين. أما من الناحية السيكولوجية فان الشاعر كغيره من البشر يتأثر عاطفيا فيكتب قصيدته تعبيرا عن انفعالات وتفاعلات النفس تجاه الأحداث. فالنفس قد تتأثر بقوة لفراق الأحبة والرفاق. وهنا يصف الشاعر حالة حزن مؤلمة قد تضطره لأن يوظف مفردة “الدمع” كوسيلة لإبراز مدى وصول الحالة العاطفية الى أقصى درجات الأسى والحسرة والندم تجاه الظروف التي مر بها وأثرت في حالته النفسية ما جعلها تتحول من حالة السكينة والطمأنينة والسعادة الى حالة الحزن والقلق والعزلة. رسم الشعراء الكثير من الصور لعاطفة هيجتها الأحزان فسالت على إثرها الدموع حرقة على رحيل الرفاق وفقدهم. ومن هذه الأبيات ما جاء في قصيدة ليزيد بن معاوية حينما قال: لا ترحلنّ فما ابقيت من جلــدي *** ما أستطيــع به توديــع مرتحــــلٍ ولا من النوم ما ألقى الخيال به *** ولا من الدمع ما أبكي على الطللِ يلاحظ من هذه الأبيات قدرة الشاعر على وصف أثر الرحيل في حالته النفسية وانعكاس هذا الأثر على قصيدته مما ساهم في ابراز صورة شاعرية رائعة من حيث البناء اللغوي ومن حيث قوة المعاني ودقة التصوير لوصف العاطفة. فقد استخدم مفردة “الدمع” ليوحي للناس بأن رحيل الأحبة أدى لانهيار قواه النفسية والعقلية وجعله يقضي يومه دون أن يهنأ بالنوم. بل انه يخبرنا في الشطر الثاني من البيت الثاني بأنه يعتقد تماما أن ما تبقى من دموع لم يعد كافيا للبكاء على الاطلال. وفي ذلك مبالغة للتعبير عن فضاعة الحزن من ناحية، ولكسب تعاطف الناس معه في هذه الظروف من ناحية أخرى. ولعل من المناسب أن نذكر بعضا مما جاء في قصيدة الخنساء عندما رثت أخيها صخرا بهذه الأبيات: ما بال عينيك منها دمعها سرب *** أراعهــا حزن أم عادهـا طربٌ أم ذكر صخر بعيد النوم هيّجها *** فالدمع منها عليه الدهر ينسكبُ تنعى الخنساء أخيها بهذه الأبيات التي تعبر من خلالها عما أصابها من حزن شديد حيث نلاحظ أنها تأثرت عاطفيا على فراق أخيها. ولهذا أرادت أن تقدم لنا تفسيرا لحالتها يصل الى أقصى درجات الألم النفسي ما أدى الى تهييج العين لذرف الدموع بما يتكافأ قدرا مع فقدها وخسارتها لإنسان يحتل مكانة كبيرة في كيانها وشخصيتها. ولذلك حملت قصيدة الخنساء صورة أدبية مؤثرة للغاية كونها جاءت للتعبير عن حالة الانفصال الأبدي عن أخيها وما صاحب هذا الانفصال من ألم ألهب مشاعر العاطفة. وبالتالي فقد أعطت الحالة الوجدانية إشارة للعيون بأن تذرف الدموع كنوع من الاحتجاج على الشعور يألم الحزن. لقد تضمنت قصيدتها اقوى الكلمات تأثيرا وتعبيرا عن الحزن الذي ترى الخنساء أن آلامه ستجعل العين تسكب الدمع على فراق صخر مدى الدهر كله. ومما قاله مصطفى السباعي للتعبير عن الحزن والأسى ما جاء في قوله: وما لعينك تبكي حرقةً وأسى؟ *** وما لقلبك قد ضجّت به النارُ! على الأحبة تبكي أم على طللٍ *** لم يبقَ فيه أحبّــاء وسمـــّارُ؟ يتضمن هذين البيتين صورة أدبية تبدو فيها عاطفة الشاعر تحترق ألماً وحسرةً على فراق الأحبّة. فهو يخاطب نفسه هنا متسائلاً عن سبب بكاء العين وسبب نزف القلب حزناً مؤلماً الى حد أن شبه درجة الألم بلهبِ نارٍ متقدة. ويستمر الشاعر في التساؤل ان كانت دموع العين تنساب على وجنتيه نتيجة لفراق الأحبة أم لمجرد وقوفه عند الأطلال التي خلت من زائريها فأصبحت غير ذي قيمة بغياب المحبوب عنها. ويقول شاعر آخر من هذا الزمن: من مقلة العين فاض الدمعُ منهمــراً *** أراه احتجاجـــاً لما بالنفسِ من ألــمِ نحنُ وان طالت بنا الأيام ضاحكــةً *** فيوماً ستأتي ليـــالِ الحـــزنِ والسأمِ تذكرتُ أحباب الفؤادِ فسالت أدمُعي *** شوقاً لمن رحلوا وليس الجرحُ يلتئمُ نبع الأمومةِ جنةٌ من تحتها يجــري *** بحرٌ من الحنــــــانِ بالأمـواجِ يلتطمُ جاء توظيف مفردة ” الدمع” في هذه الأبيات لرسم صورة شاعرية لعل أن تعكس بوضوح الانفعال العاطفي تجاه الانسان الذي رحل عن الدنيا وأدى رحيله الى انهمار الدموع حزنا عليه وشوقا اليه. في البيت الثاني يتنبأ الشاعر بحدوث انكسار عاطفي في النفس. فيقول إن الأسوأ سيأتي في قادم الأيام وأن أيام السعادة والمرح سيعقبها حزن وسأم. وتلك مشيئة الله في الحياة. من خلال هذه الأبيات يعبر الشاعر عن رؤية خاصة به حول أسباب ذرف الدموع في حالات الوداع أو الرحيل عن الدنيا، اذ يرى أن العين تسكب الدمع سكبا بدافع الاحتجاج ضد الألم الشديد. في الزمن الحاضر يلاحظ أن كثيرا من الشعراء يفرطون في استخدام كلمة ” الدموع” بما لا يتوافق مع الحالة العاطفية للشاعر وانما يريد البعض منهم محاكاة من سبقوهم ليبقوا في دائرة الضوء ويسيروا في ركب الشعراء القدماء الذين تنبع أبياتهم من معاناة ومآسي واقعية مرّوا بها في حياتهم، فجاءت قصائدهم تجسيدا لمشاعر صادقة وأحداث حقيقية. وعموما فان الكثير من الشعراء سواءً في العصور القديمة أو حتى في العصر الحديث انما يبالغون أحيانا في وصف العاطفة شعرا من خلال اختيارهم لمفردات ذات تأثير قوي على نفس الانسان، ولكن مبالغتهم في الوصف لا تدفعنا للحكم عليهم بأنهم يكذبون، وانما هم يصنعون لنا خيالا أدبيا لا يتأتى جماله الا برسم صورة معبّرة تتناسب وموضوع القصيدة. في تقديري ان هذا الخيال يعد مفيدا لإضفاء خصائص جمالية للقصيدة حتى وان كان الشاعر يتقمص هوية عاطفية مزيفة لينسج حولها قصيدته. فهذا النسيج اللغوي سيبدو جميلا ولكنه لا يرقَ أبداً لمستوى القصيدة ذات الحدث الواقعي المؤثر والمنتج للقصيدة بشكل عام. ومن شعراء العصر الجاهلي يبرز اسم عنترة بن شداد العبسي الذي أثرى تاريخ الأدب العربي شعرا بطوليا وشعرا غزليا عفيفا. وقد اتسمت بعض قصائده بالمبالغة والتهويل في نسج الخيال شعرا. ومما وصلنا من شعره قوله: ولقد ذكرتكِ والرماح ُنواهلٌ منّي *** وبيض الهندِ تقطـــرُ من دمي فوددتُ تقبيـــــل السيـــوف لأنها *** لمعت كبـارقِ ثغرك المتبسمِ مما لا شك فيه أن الشاعر أبدع شعرا في وصف عاطفته تجاه محبوبته الى درجة مبالغة عالية. وهنا لا نستطيع أن نقول إن الشاعر كان صادقا في شعره، اذ من غير المعقول، ولمجرد أن لمعت السيوف يتذكر الشاعر بريق ثغر محبوبته بينما يكون هو في وطيس المعركة، وشبح الموت يتماثل أمامه في كل لحظة لاسيما وأن العواطف تختفي تماما في ساحات المعارك. لقد نسج عنترة هذا المشهد التراجيدي الدراماتيكي ليصنع في نفس معشوقته أثرا عاطفيا قويا يستميل به قلبها ومشاعرها، وكذلك لأجل أن يرسم لذاته شخصية بطولية مهيبة أمام فرسان العرب وزعمائهم.
مشاركة :