حدث في أحد الأيام، أن مررتُ بأحد الجوامع الكبرى في القاهرة، فقد آذن العصر على المجيء، فأردتُ أن آتي فرض الظهر الذي أزفَ على الرحيل، وبعد فراغي من الصلاة، استمعتُ إلى أحد الشيوخ، وهو يعظ الناس، وكان يتحدث عن سورة يوسف، فسمعته يقول: إن امرأة العزيز أعدَّت مجلساً للنسوة اللائي خُضن في سيرتها، وفي شغفها بيوسف عليه السلام. ثم قال صاحب الفضيلة: إن القرآن ذكر لفظ (وأعتدت) وهو لفظ لا يأتي إلا لمجالس النعيم، واللهو، والسرور! فرفعتُ يدي، فأذِنَ لي بالكلام، فقلتُ: لكن القرآن يقول أيضاً: (وأعتدنا لهم عذاب السعير) الملك: 5. فلم يتكلم، وظلَّ ينظر نحوي بمرارة. من هنا نعلم، ونوقن، لماذا عادى أحرار العرب، ومفكروهم العباقرة هذا النفر من أهل النحو الجامد. ففي كتابه «مجددون ومجترون»، يقول مارون عبود: «لا خوف على الأمم من الذين يفكرون تفكيراً شخصياً، بل الخوف كله من الطّرش المتعصبين لكل قديم الذين يتبعهم جمهور من العميان المجاذيب». بل نراه يشن حرباً شعواء على زمرة النحويين المانعين التجديد اللغوي، فيقول: «اللغويون يقفلون الباب بوجه اللسان، واللاهوتيون يسدونه بوجه العقل، ويحرمون التفكير، ويتهجمون على أصحابه». من هنا، كان خير مثال لهم هو عرض جمال لغة القرآن إزاء أشعار العرب الكبار، ليتبين كيف أخطأ هؤلاء عندما قدَّموا الشعر على القرآن في التقعيد والاحتجاج، فقد وازن ابن الأثير في كتابه «المثل السائر» بين كلمات استخدمها القرآن، وجاءت في الشعر العربي. من ذلك، أنه جاءت لفظة واحدة في آية من القرآن، وبيت من الشعر. في القرآن جاءت جزلة متينة، وفي الشعر ركيكة ضعيفة. أما الآية، فهي قوله تعالى: (فإذا طعمتم، فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق) الأحزاب: 53. أما بيت الشعر، فهو قول أبي الطيب المتنبي: (تلذ له المروءة، وهي تؤذي/ ومن يعشق يلذ له الغرامُ نقلاً عن كتاب «بلاغة القرآن») للدكتور الراحل أحمد بدوي، أستاذ الأدب في كلية دار العلوم - جامعة القاهرة. ويعلق ابن الأثير على قول المتنبي السابق، فيقول: «وهذا البيت من أبيات المعاني الشريفة، إلا أن لفظة (تؤذي) قد جاءت فيه، وفي آية القرآن، فحطَّت من قدر البيت، لضعف تركيبها، وحسن موقعها في تركيب الآية. وهذه اللفظة (تؤذي) إذا جاءت في الكلام، فينبغي أن تكون مندرجة مع ما يأتي بعدها، متعلقة به، وقد جاءت في القرآن متعلقة، بينما جاءت في قول المتنبي منقطعة. وقد جاءت هذه اللفظة بعينها في الحديث الشريف، وأضيف إليها كاف الخطاب، فأزال ما بها من الضعف والرّكَّة. قال النبي (صلى الله عليه وسلم): باسم الله أشفيك، من كل ما يؤذيك». ويتناول ابن الأثير نموذجاً آخر للمقارنة بين ألفاظ القرآن الكريم، وألفاظ الشعراء الكبار، فيقول: «ولفظة (لي) تماماً مثل لفظة (يؤذي)، وقد جاءت في قوله تعالى: (إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة) ص: 23، فقد جاءت مندرجة متعلقة بما بعدها، وإذا جاءت منقطعة لا تجيء لائقة، كقول أبي الطيب: «تُمسي الأماني صرعى دون مبلغه/ فما يقول لشيء: ليت ذلك لي»! ولفظة (القمَّل) جاءت حسنة في القرآن، وغير حسنة في شعر الفرزدق. أما الآية، في قوله تعالى: (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم آيات مفصلات) الأعراف: 133. وأما بيت الشعر، في قول الفرزدق: «من عِزِّه احتجزت كليبٌ عنده/ زرياً، كأنهم لديه القُمَّلُ»، وإنما حسنت هذه اللفظة في الآية دون البيت من الشعر، لأنها جاءت في الآية مندرجة في ضمن الكلام، ولم ينقطع الكلام بعدها. وجاءت في الشعر قافيةً، أي آخر الكلام عندها! يقول الدكتور أحمد بدوي: «عاب ابن سنان الخفاجي قول الشريف الرضي: (أعززْ علي بأن أراك وقد خلتْ/ عن جانبيك مقاعدُ العوّادِ) فإيراد مقاعد في هذا البيت صحيح، إلا أنه موافق لما يُكره في هذا الشأن، لا سيما أنه أضافه إلى من يُحتمل إضافته إليهم، وهم العوّاد، ولو انفرد كان الأمر فيه سهلاً، فأما إضافته إلى ما ذكره؛ ففيها قبح لا خفاء به»! قال ابن الأثير: «وقد جاءت هذه اللفظة المعيبة في الشعر. في القرآن الكريم، فجاءت حسنة مرضية، وهي قوله تعالى: (وإذ غدوتَ من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال) آل عمران: 121، وكذلك قوله تعالى: (وأنّا لمسنا السماء فوجدناها مُلئت حرساً شديداً وشهباً، وأنّا كنا نقعد منها مقاعد للسمع) الجن: 8. ألا ترى أنها في هاتين الآيتين غير مضافة إلى من تقبح إضافته إليه كما جاءت في الشعر؟ وكذلك جاءت هذه اللفظة في الآيتين على ما تراه من الحسن، وجاءت على ما تراه من القبح في قول الشريف الرضي»! ويورد الدكتور أحمد بدوي مثلاً آخر على جلال ألفاظ القرآن، وإعجاز كلامه مقارنة بشعر العرب، فيقول: «ومن ذلك استخدام كلمة شيء، ترجع إليها في القرآن الكريم، فترى جمالها في مكانها المقسوم لها. واستمع إلى قوله تعالى: (وكان الله على كل شيء مقتدراً) الكهف: 45، وقوله تعالى: (أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) الطور: 35، وقوله تعالى: (إن الله لا يظلم الناس شيئاً، ولكن الناس أنفسهم يظلمون) يونس: 44، إلى غير ذلك من عشرات الآيات التي وردت فيها تلك اللفظة، وكانت متمكنة في مكانها أفضل تمكنٍّ وأقواه، ووازن بينها في تلك، وبين قول المتنبي يمدح كافوراً: «لو الفلك الدوار أبغضتَ سعده/ لعوّقه شيء عن الدورانِ» فإنك تحس بقلقها في بيت المتنبي، وذلك أنها لم توحِ إلى الذهن بفكرة واضحة، تستقر النفس عندها وتطمئن، فلا يزال المرء بعد البيت يسائل نفسه عن هذا الشيء الذي يعوق الفلك عن الدوران! فكأن هذه اللفظة لم تقم بنصيبها في منح النفس الهدوء الذي يغمرها عندما تدرك المعنى وتطمئن إليه! وينتهي الدكتور أحمد بدوي إلى قوله: ولم يزد مرور الزمن بألفاظ القرآن إلا حفظاً لإشراقها، وسياجاً لجلالها، لم تهن لفظة، ولم تتخلَّ عن نصيبها في مكانها من الحسن! وقد يقال: «إن كلمة (الغائط) من قوله سبحانه: (وإن كنتم مرضى أو على سفرٍ أو جاء أحدٌ منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمَّموا صعيداً طيباً) المائدة: 6 قد أصابها الزمن، فجعلها مما تنفر النفس من استعمالها، ولكنّا إذا تأملنا الموقف، وأنه موقف تشريع وترتيب أحكام، وجدنا أن القرآن عبَّر أكرم تعبير عن المعنى، وصاغه في كناية بارعة، فمعنى الغائط في اللغة، المكان المنخفض، وكانوا يمضون إليه في تلك الحالة، فتأملْ أي كناية يستطيع استخدامها مكان هذه الكناية القرآنية البارعة! وإن شئت أن تتبين ذلك، فضع مكانها كلمة (تبرَّزتم، أو تبوَّلتم) لترى ما يثور في النفس من صور ترسمها هاتان الكلمتان! ومن ذلك كله، ترى كيف كان موقع هذه الكناية يوم نزول القرآن، وأنها لا تزال إلى اليوم أسمى ما يمكن أن يُستخدم في هذا التشريع الصريح».
مشاركة :