يكثر الكلام هذه الأيام عن التسامح، كضرورة ينبغي تنميتها والحفاظ عليها، وهو القيمة الأخلاقية التي أعلنت دولة الإمارات العربية المتحدة تخصيص عام 2019 لها.. فما تعريف التسامح بالضبط؟ التسامح «Tolerance»، يعني قبول الآخرين الذين يختلفون عنا، في أفعالهم ومعتقداتهم وأشكالهم وأديانهم وعاداتهم وأعراقهم وجنسياتهم -حسب تعريف قاموس المصطلحات النفسية APA- أي ببساطة: تطهير النفس من التعصب والتطرف. وفي لسان العرب، يقترن لفظ التسامح بالتيسير وتسهيل الأمور، وفي معجم اللغة العربية المعاصر نجد أن التَّسامُح الدِّينيّ يعني «احترام عقائد الآخرين».. وهو أوضح صور التسامح وأكثرها رقياً. لماذا التسامح؟ التسامح مفيد للمجتمع؛ لأنه يردع الفتن الطائفية والحروب الأهلية.. إلا أن فوائده تعود أيضاً على الإنسان نفسه على المستوى الفردي، فالشخص المتسامح يقل شعوره بالمشاعر السلبية، كالكراهية والغضب والاحتقار، وهو ما يزيد من سعادته الشخصية وجودة حياته ككل.. كما يوسع من دائرة صداقاته وعلاقاته الشخصية، ويزيدها تنوعاً، وهو ما يؤثر في نجاحه المهني، مثلاً، وثراء شبكة دعمه الاجتماعي.. كما أنه دليل واضح على النضج النفسي. أي أن التسامح خيار فردي، ينبغي للإنسان السعي إليه لتحقيق حياة أفضل. فكيف يمكننا تحقيقه؟ الاختلاف سنة كونية هُناك أسطورة هندية شهيرة، تحكي عن ثلاثة مكفوفين لم يعرفوا ما هو الفيل ولا كيف يبدو.. دخلوا غرفة فيها فيل.. وطُلب منهم أن يصفوا شكله.. أولهم راح يتحسس الخرطوم وقال: الفيل يشبه الثعبان..! ثانيهم راح يتحسس الأرجل وقال: الفيل عبارة عن أربعة أعمدة! ثالثهم راح يتحسس الذيل وقال: الفيل شيء يشبه المقشة! وبالطبع لم يصدق أي منهم ما يقوله الآخر.. راح كل منهم يتهم الآخر بالكذب.. لأنه لم يصدق إلا ما لمسه بيده.. لم يستوعب سوى تجربته الشخصية هو فقط! هذه القصة تلخص ببساطة الكثير من الصراعات التي قد تحدث في حياتنا اليومية.. نحن لا نرى الصورة كاملة.. وكأن الحياة لوحة بازل «puzzle» وكل منا لا يرى سوى جزء من الصورة هو تجاربه الشخصية وما تعلمه وما تم تلقينه إياه خلال حياته.. وهو -بالتأكيد- مختلف عما تعلمه الآخرون في تجارب حياتهم التي حكمت نظرتهم للأمور. أدرك الإمام الشافعي هذا حين قال حكمته الشهيرة: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب».. إدراك هذه الحقيقة أمر جوهري: كل إنسان يرى الحياة في ضوء تجاربه الشخصية.. تخيل لو كنتَ قد ولدتَ -أنت شخصياً- في بلد آخر لأبوين من دين آخر، ولقنك أبواك منذ الطفولة تعاليم دينهما حتى ألفته وارتبطت به وجدانياً وأصبح مرادفاً للخير بالنسبة لك.. هل ستكون -وقتها- على دينك الذي أنت عليه الآن؟ تخيل شخصاً ولد وفي مكان مختلف وتربى على دين مختلف في بيئة مختلفة وظروف مختلفة.. واجتهد كي يرضي الله بالطريقة التي يعتقد أنها صواب، فساعد المحتاج ولم يكذب ولم يسرق وسعى لفعل الخير.. وانتظم في صلاته التي تعلمها وتحرك قلبه تقرباً لما يؤمن به.. والتزم بالتعاليم التي نشأ منذ نعومة أظفاره على أنها الحق.. بأي منطق، نكره شخصاً لمجرد أنه مختلف عنا دينياً؟ القدرة العقلية على إدراك وجهة نظر الآخر -تسمى في الدراسات النفسية المنظور أو نظرية العقل- ليست ناضجة عند كل الناس بالقدر نفسه. ومن لا يستطيع أن يضع نفسه في حذاء الشخص الآخر -كما يقول التعبير الإنجليزي- ليفهم حقيقة دوافعه ونواياه، سيعيش حياة مليئة بسوء التفاهم والتواصل ولن يعرف التسامح لقلبه طريقاً. خلق الله الناس مختلفين.. خلقهم شعوباً وقبائل وبلداناً وحضارات وثقافات وأيديولوجيات مختلفة، ليتعارفوا.. ولو شاء الله لخلقنا أمة واحدة لكنه لم يشأ ولم يفعل.. فافتراض أن الناس كلهم عليهم أن يؤمنوا بدين واحد، شيء يناقض الطبيعة البشرية ومشيئة الله وسنته في الكون، ولم يحدث هذا في أي عصر من العصور أصلاً. يقول جلال الدين الرومي: «الحقيقة مرآة سقطت وتهشمت.. أخذ كل شخص قطعة ونظر فيها معتقداً أنه امتلك الحقيقة كاملة!» تدريب ذهني تخيل أنك تعيش في دولة لا تدين بدينك. تضيق عليك في ممارسة شعائرك ولا تسمح لك بالصلاة في العلن أو بناء دور عبادتك. تخيل أنك تضطر لممارسة دينك في الخفاء، خوفاً من أن يراك أحد، مخفياً كل الرموز الدينية كي لا يغضب منك هؤلاء الناس.. مارس هذا التدريب الذهني بأمانة وخذ وقتك فيه. ثم راقب مشاعرك جيداً وأنت تتخيل أن هذه حياتك اليومية. بماذا تصف هذا المجتمع وهذا الدين؟ هذا التدريب الذهني البسيط، كافٍ لإدراك ما تعيشه بعض الأقليات في بعض دول العالم للأسف، حيث يعتبر السماح ببناء دور عبادة للأقليات أمراً لا يمكن السماح به وتحدث التوترات والصدامات الطائفية بسببه. حين تضع نفسك مكان الآخر وترى الأمور من زاويته، تدرك الواقع بشكل أكثر موضوعية وتضع الأمور في نصابها. في الإمارات، تجد القاعدة الذهبية للأخلاق مطبقة في أجلى صورها، فوجود دور عبادة للطوائف المسيحية والهندوسية والسيخ.. يعكس قدراً كبيراً من التحضر والمدنية والتسامح الديني، الذي لا يتوافر بالقدر نفسه في دول عربية أخرى للأسف. حين تفكر في التضييق على طوائف دينية لأنك لا تعترف بها، فكر في المسلمين في الدول الغربية التي تسمح لهم ببناء دور عبادتهم، رغم أن الدين السائد فيها لا يعترف بالإسلام، لكنه يسمح بذلك من منطلق التسامح وحق الإنسان في ممارسة دينه. فهل ترضى لبلدك أن يكون أقل تحضراً وخُلُقاً؟ التسامح دليل واضح، على التحضر، وكذلك النضج النفسي. الانتماء للإنسانية أثار الرئيس الأميركي رونالد ريجان عام 1987 نقطة طريفة في خطابه في الأمم المتحدة.. إذ قال: «ربما نحتاج إلى تهديد خارجي شامل يجعلنا ندرك روابطنا المشتركة. أفكر أحياناً كيف ستختفي جميع خلافاتنا حول العالم، إذا واجهنا غزواً من الفضاء الخارجي!» هذا الافتراض يوضح نقطة شديدة الأهمية.. وهي أننا جميعاً نواجه بالفعل تهديدات مشتركة كبشر نسكن على الكوكب نفسه. قضايا مثل التغير المناخي وتلوث الهواء وتهديد الحرب النووية.. كلها أمور لن تفرق بين أيديولوجية وأخرى.. تخيل معي مركباً في وسط البحر بين الأمواج المتلاطمة، وكل من في السفينة معني بشؤونه الخاصة، أو يحاول كل منهم ثقب السفينة في الجانب الذي يعيش فيه مخالفوه.. سيغرق المركب في كل الأحوال لو لم يعمل الجميع على إصلاحه. توسيع دائرة الانتماء، لتشمل التعاطف مع الآخرين كبشر يجمعنا أكثر مما يفرقنا.. وإدراك مصيرنا المشترك، وأن ما يجمعنا أننا جميعاً بشر، شئنا ذلك أم أبينا! حتى المختلف معك في الدين، متفق معك في الإنسانية.. بهذا المعنى للإمام علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، مقولة مفادها أن الناس صنفان «أخ لك في الدين، ونظير لك في الخلق»! اختلط بالآخر غالباً ما يعيش المتطرفون في عزلة عن الآخر، رافضين الاختلاط به ومعايشته. وهو ما يعزز الصور النمطية السلبية تجاه هذا الآخر. فالإنسان عدو ما يجهل. وكلما كان الآخر بعيداً غير مدرك، كلما قل التعاطف معه لاإرادياً. صادق أناساً من ثقافات مختلفة. تعرف على ثقافاتهم وطعامهم وعاداتهم مثلاً، فهذا موضوع شائق في حد ذاته لو كنت تتمتع بقدر من الفضول. راسل على مواقع التواصل الاجتماعي أناساً من مجتمعات أخرى تجمعكم اهتمامات مشتركة، لتجد أن الناس رغم اختلاف ألسنتهم، يمكنهم أن يتشاركوا الاهتمامات والآراء حولها.. تجارب الحياة هذه هي ما تبدد الصور النمطية السلبية تجاه الآخر. ولذلك لا ينبغي للأقليات أن تنعزل عن المجتمعات التي تعيش فيها، بل ينبغي أن تنخرط وتندمج، لأن هذا كفيل بتحسين صورتها وتخفيف التطرف النابع منها أو الموجه ضدها! يقول الأديب باولو كويلو: «ربما لا يكون أحدنا محظوظاً ليخوض تجارب كثيرة في حياته، إلا أن معظم الناس اليوم يستطيعون أن يقرأوا». لو لم يكن متاحاً في محيطنا الاجتماعي أن نختلط ونصادق أناساً من خلفيات ثقافية متعددة، يمكننا أن نقرأ عن هذه الثقافات من مصادرها الأصلية، من أهلها، كي تصلنا صورة موضوعية عما ينادون به.. وفي الغالب، سيجعلنا ذلك ندرك مدى تقاربنا الأخلاقي وتشابه ما ننادي به، من حق وخير.. لا تعمم.. تخيل معي حدوث عمل إرهابي ارتكبه أتباع الدين «X» في بلدك.. وقال مرتكبوه، إنهم فعلوا ذلك تنفيذاً لتعاليم هذا الدين. ما هو موقفك تجاه أفراد هذه الطائفة الدينية في بلدك؟ هل ستطالب بطردهم؟ في 2014، ارتكبت في أستراليا جريمة إرهابية لشخص نسب نفسه لـ«داعش». رغم ذلك، أطلق أستراليون حملة لحماية المسلمين من أي مضايقات قد يتعرضون لها. وأطلقوا هاشتاغ #IllRideWithYou، والذي يعني: «أنا سأركب معك».. حيث يعرضون مصاحبة أي مسلم في المواصلات العامة لحمايته من أي مضايقات وضمان رحلة آمنة. كي لا يظلم شخص لا ذنب له في الموضوع أصلاً. هل كان هذا موقفك؟ الصراعات السياسية والطائفية بين الكيانات، قد لا تمثل الأفراد بالضرورة.. فعلى سبيل المثال: المذابح التي ارتكبها بوذيون في حق أقلية الروهينجا المسلمة، لا تعني إطلاقاً أن البوذيين يكرهون المسلمين ويتآمرون ضدهم.. بل معناه أن من ارتكبوا هذه الأفعال -بعينهم- مجرمون ينبغي تقديمهم للعدالة.. علق الدلاي لاما على هذا الأمر بالفعل قائلاً إنهم لا يمثلون البوذية.. كما نؤكد نحن أن «داعش» لا تمثل الإسلام. كل جرائم الإبادات الجماعية والقتل على الهوية بدأت من منطق التعميم هذا. ميليشيات الهوتو ترغب في قتل أفراد أقلية التوتسي، لمجرد أنهم كذلك.. تخيل شخصاً يقتل شخصاً لا يعرفه دون ذنب، لمجرد كلمة مكتوبة في بطاقته الشخصية.. هل تتخيل مدى تغييب هذه الفكرة لآدمية الإنسان؟ احكم على الناس كأفراد، ولا تعمم الكراهية على من لا ذنب لهم.. فالناس فيهم الصالح والطالح... فقد يكون منهم معتدلون ومحبون للتعايش.. بل ومتفقون معك أيضاً.. لو أخذنا مثالاً صارخاً، وهو الخلاف مع إسرائيل.. خلاف سياسي ولا ينبغي -إنسانياً وأخلاقياً- أن يكون معاداة لليهود ككل.. جماعة «ناطوري كارتا» اليهودية مثلاً، تناهض إسرائيل وتنادي بحقوق الفلسطينيين، ويمكن أن ترى صور حاخاماتها يرتدون الكوفية الفلسطينية تضامناً مع القضية.. فهل ينبغي معاداة كل اليهود كأشخاص؟ بالطبع لا! هل ينبغي أن أكره تشومسكي وفرويد وآينشتاين مثلاً؟ بالطبع لا! تطرف أفراد جماعة ما -عصابات المستوطنين المتشددين مثلاً- لا يبرر أخلاقياً التطرف المضاد ضد الجماعة ككل.. ولا ينبغي أن تكون الكراهية عامة بلا حساب أو تفريق.. مثلما لا نريد للعالم أن يكره المسلمين كلهم، بسبب وجود جماعات إرهابية.. أليس كذلك؟ كلمة أخيرة اختلاف وجهات النظر سنة كونية تحدث بين أبناء الوطن الواحد والدين الواحد.. وإن لم يتدرب العقل الجمعي لمجتمع ما على احترام -بل والدفاع عن- الحق في الاختلاف والتعدد، لكان هذا نذيراً بتفتت وتصادم مكوناته يوماً ما. التسامح مسألة أمن قومي.. والدفاع عن التعددية -لا إلغاؤها- هو ما يحافظ على تماسك المجتمع.
مشاركة :