هل يتمكن الإنسان من برمجة عقله؟

  • 4/12/2019
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

عندما أصبح استخدام التصوير بالرنين المغناطيسي شائعاً في ثمانينيات القرن الماضي، أصبح الإنسان مرئياً بشكل لم يسبق له مثيل، ولأول مرة، أصبح من الممكن أن نرى أنسجة المخ الرخوة لكائن حي، وهو الأمر الذي لم يكن ممكناً من قبل سوى من خلال تشريح الجثث بعد الوفاة. بالنسبة للأطباء، الذين يحاولون مساعدة المرضى، الذين تضررت أدمغتهم أو مرضوا، قدم التصوير بالرنين المغناطيسي صوراً لا تقدر بثمن عن حالتهم. بحلول التسعينيات، بدأ الباحثون في قياس التغيرات في مناطق المخ باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي «الوظيفي». ويكتشف هذا الأسلوب في الجديد في وقتها حجم تدفق الدم المحمل بالأكسحين، مما يكشف عن نشاط الدماغ من الانفعالات والسلوك وغيرها، وليس فقط الشكل التشريحي للمخ. بالنسبة لعلماء الأعصاب الإدراكي، الذين يدرسون العمليات العقلية، كان الرنين المغناطيسي الوظيفي عبارة عن هبة من الله، حيث مكّن من تحديد أجزاء الدماغ، التي تتفاعل مع الظروف والأشياء المحيطة، على سبيل المثال، الوجوه أو الكلمات أو الرائحة. لقد كانت نافذة تمكنوا من خلالها من رؤية الدماغ وهو يتفاعل مع العالم الخارجي. فجأة تمكنا من مشاهدة الفكر الإنساني وهو يمتد عبر المناطق الملونة بألوان قوس قزح من خلال عمليات فحص الدماغ. اليوم، دمج الرنين المغناطيسي الوظيفي مع أدوات ومعدات أحدث، بعضها ما زال قيد التطوير، سيتيح للعلماء تتبع حالاتنا العقلية بدقة أكبر. ويقوم الباحثون بجمع كميات هائلة من المعلومات من خلال فحص الدماغ، ويقومون بتحليل هذه المجموعات من «البيانات الضخمة» باستخدام أحدث التقنيات الحسابية، وخاصةً التعلم الآلي، وهو فرع من الذكاء الاصطناعي متخصص في العثور على أنماط دقيقة يصعب اكتشافها باستخدام الطرق المعتادة. بداية ثورة علمية ويعد هذا التطور بداية ثورة علمية، فقد بدأ العلماء في كشف مسألة كيف تشكل أدمغتنا المادية طرق تفكيرنا وهو أمر غير ملموس. فعلى الرغم من أن هذا البحث مدفوع بشكل أساسي بالأهداف الطبية والعلاجية، فإنه قد يكون له تأثير عملي في مجالات مثل تسويق المنتجات، وتغيير كيفية التعامل مع أجهزة الكمبيوتر والعدالة الجنائية. في نهاية المطاف، قد يساعد في الإجابة على الأسئلة الأساسية حول الوعي والإرادة الحرة للإنسان، أو حتى قيادة الطريق تجاه الحفاظ على معارف وذكريات الأفراد بعد فترة طويلة من المرض الذي قد يصيب أجسادهم. يبدو أن بعض الوظائف العقلية، مثل الشعور بالخوف أو التعرف على وجوه الأفراد، يمكن تحليلها بسهولة، حيث إنها موجودة في أقسام محددة من الدماغ، وبالتالي فهي سهلة نسبياً للكشف عنها. لكن بعض هذه الوظائف العقلية الأخرى موزّعة على أجزاء مختلفة من المخ، ويصعب التعامل معها وتحليلها، حيث إنها موزعة على أكثر من قسم في الدماغ ولكن يمكن للكشف بالرنين المغناطيسي الوظيفي اكتشاف هذه النشاطات الذهنية، التي تحدث في أماكن مختلفة من المخ في التوقيت نفسه، كما يمكن باستخدام تقنيات التعلم الآلي أن نحدد الأنماط في أشكال محددة بصورة مذهلة عندما يفكر الشخص في موضوع ما. وهذا يشبه الانتقال من قراءة الأحرف المنفردة إلى قراءة الكلمات والجمل. وقد قام جاك غالانت وعدد من الباحثين في جامعة كاليفورنيا، برسم خريطة مفصلة لأجزاء الدماغ، التي تتفاعل مع كلمات مختلفة. وفي مقال نشر عام 2016 في مجلة نيتشر، كشف الباحثون عن تجربة استمع فيها سبعة متطوعين إلى ساعتين من القصص، في حين تثبت في رؤوسهم أسلاك آلات التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي. وسجل الباحثون تغييرات في تدفق الدم لمناطق الدماغ المختلفة. ثم قاموا بتجميع الكلمات المنطوقة في القصص ليشكلوا منها 985 فئة، وكل فئة تضم الكلمات، التي تتقارب في مدلولاتها، حيث تندرج مثلاً كلمة شهر مع كلمة أسبوع في نفس الفئة. وبذلك فقد تمكنوا من إنتاج خريطة مفصلة تكشف عن أماكن تفاعل هذه الكلمات والمفاهيم في الدماغ. وفي مقال نشر، عام 2011، في مجلة «تريندس إن كوغنيتيف ساينسيس» أشار الباحث راسل بولدراك من جامعة ستانفورد إلى أنه إذا كان عليك أن تدرس ردود أفعال كل فرد فعليك بـ«قراءة عقولهم»، فسيكون هذا العمل رائعاً ولكن هل لهذا الأمر قيمة عملية؟. ومع ذلك، يبدو أن أدمغة الناس تنظم المعلومات نفسها وتعالجها بطرق مماثلة. تنصت الحوار الداخلي ومع تحسين تكنولوجيا التصوير الدقيق للدماغ، قد يصبح من الممكن «التنصت» على الحوار الداخلي للشخص، وتحديد الكلمات، التي يفكر فيها قبل أن ينطقها. وقال غالانت: «إن السؤال الآن يتعلق بمتى سيمكن ذلك وليس ما إذا كان هذا ممكناً أم لا». وفي الوقت ذاته يحرز باحثون آخرون نجاحاً مماثلاً في تحديد ما تنظر إليه، سواء كنت تتذكر زيارة مكان معين أو فيما يتعلق بقرارات اتخذتها. بما أن هذه النتائج ملحوظة، فمن المحتمل أن تتضاءل مقارنة بما قد يكون في الأفق مع أدوات جديدة أو محسّنة. قد تؤدي التقنيات الناشئة، مثل التحليل الطيفي بالأشعة تحت الحمراء، فالأنسجة البشرية، بما في ذلك العظام، يمكن ملاحظتها، إلى حد كبير عند التعرض للأشعة تحت الحمراء، على الأقل إلى عمق بضعة سنتيمترات. ومن خلال تسليط ضوء الأشعة تحت الحمراء على جمجمة الإنسان يمكن للباحثين تحديد التغيرات في تدفق الدم. وتتميز هذه التقنية بمزايا عديدة مقارنة بالرنين المغناطيسي الوظيفي: إنها أسرع وأرخص وأكثر قابلية للتنقل من مكان لآخر بسهولة، لذلك يمكن قياس أدمغة الأشخاص أثناء مشاركتهم في أنشطة مشتركة مثل التفاعل مع الآخرين وممارسة الألعاب الرياضية. على الجانب السلبي، تعد أجهزة الكشف بالأشعة تحت الحمراء الحالية أقل دقة مقارنة بالرنين المغناطيسي الوظيفي، وتقتصر على قياس الطبقات الخارجية للدماغ فقط. كشف الجرائم وفي محاولة لاستخدام هذه التقنيات في كشف الجرائم، حاولت شركتان على الأقل الكشف عن إمكانية تحديد الجناة المشتبه بهم في الجرائم بتتبع نشاطهم الذهني عند ذكر اسم الضحية، أو عرض وجه الضحية ووضع صور لمكان الجريمة، أو تحديد السلاح المستخدم في ارتكاب الجريمة. وأظهرت العديد من الدراسات أن رد فعل الدماغ قد يختلف ويمكن بالتقنيات الحديثة قياس مدى هذا الاختلاف. ووجد أنتوني فاجنر ومعاونوه في مختبر ستانفورد، أنه يمكن اكتشاف ما إذا كان الأشخاص يعتقدون أنهم يعرفون وجه شخص معين بدقة قد تصل إلى 80% أو أفضل، على الرغم من أنهم لاحظوا في الأبحاث اللاحقة أنه يمكن في الwوقت ذاته أن يتم خداع البرنامج عن قصد. وإذا أمكن حل هذه المعضلة في المستقبل، فقد يتم حل الجرائم من خلال رصد وتحليل التغيرات في دماغ المشتبه فيه عند عرض صور الضحية. على الرغم من أن إجماع الخبراء الحالي هو أن هذه التقنيات لا يمكن الاعتماد عليها بدرجة كافية لاستخدامها في تطبيق القانون، فإن المعلومات من هذا النوع يمكن أن تحدث ثورة في الإجراءات الجنائية. وقد لا نكون قادرين على إعادة عرض تذكر المدعى عليه لجريمة كما لو كانت شريط فيديو، ولكن تحديد ما إذا كان لديهم ذكريات عن مسرح الجريمة أو الضحية قد يلعب دوراً مهماً في المحاكمات المستقبلية كما تفعل أدلة الحمض النووي اليوم. وغني عن القول أن استخدام هذه التكنولوجيا سيثير مجموعة من القضايا الأخلاقية والدستورية. أمر روتيني ويمكن أن تصبح مراقبة الدماغ أمراً روتينياً يتعرض له العاملون في قطاعات محددة. ويضع السائقون المختارون في القطارات عالية السرعة، وغيرهم من العاملين في الصين بالفعل، أجهزة لمراقبة الدماغ أثناء قيامهم بواجبهم للكشف عن مدى الإرهاق الذي يشعرون به خلال ساعات العمل، أو مدى تركيزهم عند ممارسة عملهم. وذكرت صحيفة ساوث تشاينا مورنينج بوست أن بعض الموظفين والعاملين بالحكومة في الصين مطالبون بوضع أجهزة استشعار مخبأة في خوذات أو زي موحد للسلامة، للكشف عن الاكتئاب أو القلق أو الغضب. وصرح أحد المديرين التنفيذين في شركة لوجستيات بأن هذه التقنيات «تقلل بشكل كبير عدد الأخطاء التي يرتكبها العمال». وقد يكون تحديد الأنماط الاستهلاكية باستخدام تلك التقنيات الحديثة أمراً مصيراً للاهتمام في المستقبل، مما يفتح المجال أمام خلق أسواق وصناعات جديدة. في يوم من الأيام، قد يكون من الممكن معرفة مستوى من الدقة ما إذا كانت زوجتك تحبك حقاً، أو تجدك جذاباً. وقد تتطلب الاستعدادات للزواج في المستقبل زيارة إلى مركز فحص المخ للإجابة على بعض الأسئلة الشخصية للغاية. قد تطلب شركات التأمين أو أصحاب العمل من المتقدمين للحصول على بوليصة تأمين، أو للحصول على وظيفة، الخضوع لاختبار لتحديد ما إذا كانوا قد كذبوا عند تقديم طلباتهم أم لا. وتوفر تقنيات مسح الدماغ اليوم دقة غير مسبوقة، حيث يبلغ متوسط القياسات أكثر من مئات أو آلاف الخلايا العصبية. نحن نسيطر حالياً على أجهزة الكمبيوتر والإلكترونيات من خلال الاتصال المادي، وتطور الأمر في الآونة الأخيرة، من خلال أصواتنا. في المستقبل، قد نتمكن من تشغيل هذه الأدوات باستخدام أفكارنا. تخيل ارتداء جهاز يتيح لك التفكير في ”تحديد درجة الحرارة في المنزل“ أو«فتح الباب للزائرين»، وإملاء النص في مستند دون التحدث أو إرسال رسالة إلى صديق وأنت صامت. مركز المعلومات في نهاية المطاف، قد تجعل التقنيات الحديثة من الممكن تحويل عقلك إلى مركز للمعلومات تملك أنت فقط الملكية الفكرية لمحتواه، وهو إرث ينتقل إلى الأجيال القادمة. بينما تتطلب تقنيات التصوير الحالية أن تكون حياً، فقد يأتي اليوم الذي يمكن فيه أن تكون الخريطة التفصيلية لعقلك، من خلال الخلايا العصبية، متاحة بعد الوفاة بفترات طويلة، بما في ذلك تجاربك السابقة والمعرفة، التي كونتها عبر السنين وتحليلك للمواقف والأمور المختلفة. فهل سيكون بمقدور المديرين التنفيذيين في المستقبل التشاور مع مؤسس الشركة المتوفى منذ فترة طويلة؟ هل سيتمكن أحفاد الشخص من معرفة أين أخفى الجد أمواله؟ بشكل أعمق، إذا تم حفظ ذكرياتك وشخصيتك بطريقة ما في جهاز كمبيوتر، فهل سيغير ذلك معنى الموت الذي نعرفه؟ تثير الموجة القادمة من التكنولوجيا المعرفية أسئلة عميقة حول طبيعة عقولنا ووعينا وإرادتنا الحرة. لكن الثورة ستصل ببطء. سيؤدي التقدم التدريجي إلى ظهور التطبيقات والمنتجات والأسواق التي يصعب التنبؤ بها مثلما كانت وسائل التواصل الاجتماعي في مهدها. ولكن هناك شيء واحد مؤكد: نظامنا القانوني ومؤسساتنا وعاداتنا سوف تكافح من أجل التكيف مع عالم قد تكون فيه أفكارنا الأكثر حميمية خاضعة للمراقبة أو تصبح مسألة عامة يطلع عليها الجميع.

مشاركة :