يعمل عديد من الاقتصادات النامية واقتصادات الأسواق الصاعدة على تحديث كيفية إدارة السياسة النقدية بما يجعلها أكثر شفافية واستشرافا للتطورات، مع زيادة التركيز على مرونة سعر الصرف، وتحديد هدف واضح للتضخم، والاعتماد بدرجة أكبر على سعر فائدة قصير الأجل أداة للسياسة. ولكن نجاح هذه البلدان في مسعاها يتطلب "آلية انتقال" تسمح بوصول التغييرات التي يجريها البنك المركزي من خلال سعر الفائدة الأساسي إلى مختلف أجزاء الاقتصاد لكي تؤثر في النهاية على قرارات الإنفاق التي تتخذها الأسر والشركات. ويخلص العديد من الدراسات الحديثة إلى أن هذه الآلية لانتقال تغييرات السياسة النقدية إما غائبة أو شديدة الضعف في البلدان الأقل دخلا. وجدنا أن آلية الانتقال يشوبها الضعف نفسه في الاقتصادات متوسطة الدخل واقتصادات الأسواق الصاعدة الأكثر تلقيا لتحويلات العاملين - أي الأموال التي يرسلها المواطنون المقيمون في الخارج إلى أسرهم في الداخل. ويعني هذا أن صناع السياسات في تلك الاقتصادات ينبغي أن يدركوا المتاعب التي تنتظرهم عند اتباع سياسة نقدية كاملة الحداثة، وربما يحتاجون إلى النظر في اتخاذ إجراءات لتقوية آلية الانتقال أو غيرها من المناهج التي يمكن أن تساعد على إدارة السياسة النقدية. تمثل التدفقات الدولية الداخلة من تحويلات العاملين سمة ثابتة في كثير من الاقتصادات النامية واقتصادات الأسواق الصاعدة. وعلى مستوى العالم، ظلت المقاييس الرسمية لهذه التحويلات تسير في اتجاه تصاعدي مطرد، من مبالغ لا تذكر في عام 1980 إلى ما يقرب من 588 مليار دولار في عام 2015 ــ منها 435 مليار دولار تلقتها الاقتصادات النامية. وفي السنوات الأخيرة، وصلت تحويلات العاملين كمصدر للنقد الأجنبي إلى نحو 2 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في المتوسط لكل اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، بينما بلغت نسبة الاستثمار الأجنبي 3 في المائة، واستثمار الحافظة نحو 1 في المائة، ونسبة التحويلات الرسمية "المعونة الأجنبية" أكثر من 0. 5 في المائة بقليل. وفي عام 2014، تلقى نحو 115 بلدا تحويلات من العاملين في الخارج تعادل 1 في المائة على الأقل من إجمالي الناتج المحلي، بينما تلقى 19 بلدا 15 في المائة أو أكثر. وبمقارنة هذه التحويلات بتدفقات رأس المال الخاص أو المعونة الرسمية، يتبين أنها كانت أكثر استقرارا - حيث ثبت أن تقلباتها الدورية كانت أقل بكثير - كما كان انكماشها أقل بكثير من أنواع التحويلات الأخرى عقب الأزمة المالية العالمية التي بدأت في عام 2008. وتصل تحويلات العاملين في بعض البلدان إلى مستوى تتضاءل أمامه التحويلات الخارجية الأخرى. فعلى سبيل المثال، تدفقت إلى الأردن ــ وهي من أكبر 30 بلدا متلقيا في السنوات الأخيرة ــ تحويلات من العاملين في الخارج بلغت 9 في المائة تقريبا من إجمالي الناتج المحلي في2015، أي أكثر من أربعة أضعاف تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر وأكثر بثلاثة أضعاف ونصف المرة من إصدارات سندات اليوروبوند الخاصة. ولا يمكن إنكار الفوائد الملموسة التي تحققها تحويلات العاملين للبلد المتلقي، ما يدعم دخل واستهلاك أسرهم في أرض الوطن، لكن من المتوقع أيضا أن تدفقات بهذا الحجم لا بد أن تترك آثارا ضخمة على مجمل الاقتصاد عاما بعد عام ــ ولن تكون كلها آثارا إيجابية بالضرورة. فقد خلص مسح للبحوث الاقتصادية Chami and others, 2008 إلى أن لتحويلات العاملين آثارا ملموسة على أسعار الصرف، واستمرارية سياسة الضرائب والإنفاق "المالية العامة"، والمؤسسات والحوكمة، والنمو الاقتصادي طويل الأجل، والسياسة النقدية. وأظهرت عدة دراسات أن التدفق المستمر لهذه التحويلات الداخلة يفرض ضغوطا تصاعدية على سعر الصرف الحقيقي طويل الأجل، ما يجعل السلع التي يصدرها الاقتصاد المتلقي أكثر تكلفة. وبخلاف التأثير في أسعار الصرف والصادرات التجارية، تمثل هذه التدفقات قناة يمكن أن تنتقل من خلالها الصدمات من البلدان المرسلة إلى البلدان المتلقية، ما يربط بين الدورات الاقتصادية على الجانبين. فخلال الأزمة العالمية الأخيرة، على سبيل المثال، انتقل الهبوط الحاد في الاقتصادات المتقدمة "المرسلة" إلى الاقتصادات ذات الدخل المنخفض والمتوسط "المتلقية" نظرا إلى اضطرار العاملين تخفيض ما يرسلونه من أموال إلى أسرهم "دراسة Barajas and others, 2012". وفي الآونة الأخيرة، أدى انخفاض أسعار النفط إلى انتقال مماثل للآثار من البلدان المنتجة للنفط في الخليج العربي إلى نظيراتها من البلدان المتلقية التي تتمثل أساسا في البلدان المستوردة للنفط من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
مشاركة :