لا يزال عشاق الشعر ونقاده يتعجبون من تجاهل النقد العربي لتجربة الشاعر محمود حسن إسماعيل، ويتساءل البعض كيف تناسى النقاد تراثه الشعري الضخم الذي امتد عبر أربعة عقود ظل الشاعر فيها مخلصا لفنه، حريصا على تعميق تجاربه من ديوان لآخر، مجتهدا في سعيه إلى إنضاج أدواته الفنية وتوسيع آفاق رؤيته إلى الذات والآخر والعالم، فبلغ أعلى مصاف الشاعرية . في أبريل/نيسان من كل عام تحل ذكرى رحيل الشاعر الكبير محمود حسن اسماعيل (2 يوليو/تموز 1910 – 25 أبريل/نيسان 1977)، الشاعر الذي اعترف صلاح عبدالصبور بافتتانه به، كما اعترف محمود درويش بتأثره الكبير به في بداية مشواره مع الشعر، فمن هو ذلك الشاعر الكبير الذي أبدع خمسة عشر ديوانا؟ "نشأت في قرية صغيرة في أعماق الصعيد اسمها النخیلة، لها من اسمها نصيب فيكثر فيها النخيل والبساتين المطلة علی نهر النيل من الجانب الغربي. ولم أولد في بيت علم ولم أواجه في طفولتي مكتبة تشكل ثقافة مبكرة تعين علی أي معرفة، وأول ما سمعت من اللغة العربية القرآن، وقد حفظته في سن التاسعة، وأول ما سمعت من الشعر الأنغام الجنائزية التي كان يتصايح بها المنشدون أمام النعوش، ولهذا هربت إلی معیشة كاملة في الحقل، سمعت من أنغام الطبيعة لغة الطيور أول إيقاع موسيقي لم تتدخل فيه صنعة الإنسان، لم أكن في معظم الوقت مع أهلي في الكوخ بل كنت أعيش في الغيط علی مشارف نهر النيل. ولا أزال أذكر الغناء البشري الذائب من حناجر الكادحين في مراسم الزرع و الحصاد". هكذا تحدث الشاعر عن نشأته وروافد تجربته الشعرية، التي ولدت ناضجة مع ديوانه الأول "أغاني الكوخ" 1935 الذي يصفه فاروق شوشة بالخروج على مألوف زمانه من تسميات، فجعل من الكوخ عنوانا، ثم هو من حيث الجوهر أول ديوان ينتظم عالم القرية المصرية من خلال رؤية إنسانية متعاطفة مليئة بالأسى والغضب والبكاء، راسمة لوحات شعرية مؤثرة لواقع يضج بالشقاء والمعاناة والظلم. شاعر كوني بقدر ما هو إنساني النزعة، لم تشغله ذات نرجسية أو اهتمامات صالونية عابرة فكانت عصمته لشعره من وهم التجربة صدى لعصمته لنفسه وحياته من التدني وتجلت ملامح شعرية مغايرة للإغراق في الرومانسية التي اقترنت بالشعر لذلك هوجم الديوان الأول وتهكم عليه البعض؛ فمَنْ هذا الشاعر الذي يخرق المنظومة السائدة ليحوي ديوانه الأول قصائد (القرية الهاجعة في ظل القمر، الريفية التي تسقط في المدينة، كنز الذهب الأبيض) وغيرها من القصائد التي استوحاها الشاعر من منبته الريفي، وحين أصدر ديوانه الثاني "هكذا أغني" 1938 بدا وكأنه قد ابتعد عن خصوصيته التي تميز بها ديوانه الأول، فقد بدا قاهريا حيث ابتعد عالم القرية كثيرا عن وجدانه، ولم يتبق منه إلا رواسب قليلة، صحيح أنها لن تختفي تماما من سائر دواوين الشاعر حتى ديوانه الأخير "موسيقى من السر". وستبقى صور القرية والفلاح بمثابة اللوحة الأساسية لمختزنات الشاعر في عالم الطفولة وفي عالم اللاوعي، تمده وتلون شعره ومعجمه، لكنها لن تصبح بذاتها قواما شعريا كما تشكلت في قصائد ديوانه الأول "أغاني الكوخ"، لذلك يتساءل فاروق شوشة: هل هو تراجع عن الخط الأول؟ أم هو تأثر من الشاعر بما وجه إلى ديوانه الأول من نقد ساخر عنيف؟ أم هو التفات طبيعي إلى عالم جديد هو عالم القاهرة؟ أما الشاعر نفسه فقد ألمح إلى السبب بقوله "وكان ديواني الأول أغاني الكوخ يمثل إحساسي بالرفض لعالم القرية الذي يخيم علیه الرق والمسكنة والتجبر والمغايرة الشنيعة بين إنسان وآخر في كل شيء والتناقض بين طرفي الإنسان: إنسان في الهلاك من الذل والحرمان والآخر يكاد يهلك من البطنة والترف والاستعلاء الجائر، ومن خلال هذا المناخ تولدت أحاسيسي الأولی نحو فلسفة الوجود وموقفي الملتزم بالطبيعة بفلسفتي الخاصة، ترفض هذه الفلسفة أول ما ترفض رق الوجود والمسافات المضروبة بين الناس بدون عدل وتقدس الحرية التي لا تشكل قيداً علی نفسها"، فلعله لم يشأ أن يكرر نفسه في أعماله التالية. الشاعر ناقدا وفي دراسة للناقد د. أنس داود يتوقف عند مقالة نشرها الشاعر عام 1943، في مجلة "أبوللو"، يطرح من خلالها مفهومه للشعر، ويؤكد على حرية الشاعر بقوله: "إن لكل شاعر أن يكتب ما يحس، وليس من الإنصاف للفن أن يجبر الشاعر على الكتابة في غرض خاص؛ لأن الشاعر إذا رصد شاعريته للمناسبات وانتظر إملاء الأغراض عليه استغلقت دونه أبواب الإلهام، وكان آليًّا قاصر الابتداع محدود الخيال". ويقول الناقد د. أحمد درويش: لعل محمود حسن إسماعيل كان من أكثر الشعراء المعاصرين دورانا حول كنه تجربته الشعرية وتصوره لأبعادها وأسلحتها ومداها، بل وتفردها، وإذا كانت أشعة التجربة تمثل ضوءا كاشفا يحاول الشاعر في وعي توجيه مساره، وهو يتأهب في رحلة الذهاب، قبل أن تتخلق وتكتسب على يديه عناصر البناء الشعري في رحلة الإياب، فإن منبع التجربة ذاتها يظل غامضا لديه، ولحظة رضاها يظل هو طوعا لها قبل أن تنبثق فتكون طوعا له، والشعر كثيرا ما يدور حول منابع تجربته سواء في المقدمات النثرية لقصائده أو خلال القصائد ذاتها، وكثيرا ما يتحدث عن موجات الفتور أو الأقوال أو الانبثاق التي توجه العلاقة بينه وبين لحظة الإلهام، عناصر أصيلة: ديوان محمود حسن إسماعيل نشأ في النخيلة لا بـد أن نسير ونجرف الأقدار من طريقنا الكبيــر ونعـــصر الـرياح في تلفت المصير ونصعق الهشيم في احتضار الأخير فـلـم يـعـد لــركبــنا وقـوف ولـم يـعـد لــدربـنا عكـوف ثمة شعراء يظلون أسرى القصيدة الغنائية، ولايجدون من بواعث التجارب أو الثقافات ما يدعوهم إلى التطور عن هذا الشكل وقد كان من هؤلاء محمود حسن إسماعيل. ويتعجب الناقد التونسي محمد آيت ميهوب، من تجاهل النقد العربي لتجربة محمود حسن إسماعيل، ويتساءل كيف تناسي النقاد تراثه الشعري الضخم الذي امتد عبر أربعة عقود ظل الشاعر فيها مخلصا لفنه، حريصا على تعميق تجاربه من ديوان لآخر، مجتهدا في سعيه إلى إنضاج أدواته الفنية وتوسيع آفاق رؤيته إلى الذات والآخر والعالم، فبلغ أعلى مصاف الشاعرية، وأثبت أنه صوت متفرد في الشعر العربي، وتجربة فريدة لا بد أن يقف عندها الدارس لتطور الشعر العربي في المنتصف الثاني من القرن العشرين، فهو الشاعر الذي قال عنه صلاح عبدالصبور: "هو الشاعر الذي تعلمت منه الشعر، وخصوصا في ديوانه أين المفر؟”، وقال أحمد عبدالمعطي حجازي "لقد أدمنت قراءته حتى شكل خياله خيالي، وطبعت لغته لغتي، وبدت قصائدي الأولى وكأنها تنويعات على شعره"، كما اعترف محمود درويش بتأثره الشديد في بداياته بشعر محمود حسن إسماعيل. لذلك رآه بعض النقاد أشعر شعراء أبوللو بما فيهم إبراهيم ناجي وعلي محمود طه، فاكتشافاته واقتحاماته والمجالات الشعرية التي حلق فيها عاطفيا وإنسانيا تفوق في أصالتها وجرأتها وتأثيرها نظائرها عند رفيقيه، فهو شاعر كوني بقدر ما هو إنساني النزعة، لم تشغله ذات نرجسية أو اهتمامات صالونية عابرة فكانت عصمته لشعره من وهم التجربة صدى لعصمته لنفسه وحياته من التدني. (وكالة الصحافة العربية)
مشاركة :