ممثل استثنائي، وأحد المواهب التمثيلية، تم تصنيفه ضمن أفضل 100 نجم على مر العصور. كان ذلك الطفل لا يهوى الدراسة، مما اضطر والده «سيسييل داي لويس» الشاعر ببلاط الملكة إليزابيث ووالدته الممثلة المسرحية «جيل بالكون» إلى نقله للدراسة في مدرسة خاصة من أجل الحصول على المزيد من الدعم الدراسي. وعندما تعرض لاستهزاء مجموعة من الزملاء المتنمرين الذين اعتادوا السخرية من لهجته الإيرلندية المختلفة عنهم، حاول دانيال داي لويس في أول أداء تمثيلي له أن يحاكي لهجتهم ويتحدث باللكنة البريطانية نفسها، بل ويلعب دور المتنمر مثلهم ليقضي أوقات الدراسة في اللهو وارتكاب بعض السرقات الصغيرة من المتاجر. كائن لا تحتمل خفته يترك داي لويس المدرسة في ما بعد ليمتهن النجارة وصنع الأثاث، وسرعان ما يشعر بالضيق من تعلمها، إذ كان يفضل التمثيل بدافع من انبهاره بأداء روبرت دي نيرو، فيتقدم الممثل الموهوب لأدوار مسرحية مختلفة إلى أن يعرض عليه المخرج «ريتشارد اتينبورج» دوراً صغيراً في فيلم «غاندي» عام 1982، ثم أثار انتباه الجمهور في فيلم 1985 My Beautiful Launderette إخراج ستيفن فريرز. وبعدها قدم فيلم «كائن لا تحتمل خفته» في عام 1988 ليتعلم اللغة التشيكية من أجل أداء دور الطبيب «توماس» أمام جولييت بينوش في دور «تريزا» والذي يجسد فيه دور الطبيب ذي العلاقات النسائية المتعددة، إلا أنه كان يكن حباً شديداً لزوجته تريزا التي عانت معها مرحلة الاستقرار والرضا بالقرار الذي اتخذه في البقاء معها، ولكنه لم يستطع قطع علاقاته النسائية الأخرى. قدمي اليسرى وبمرور الوقت، لعب داي لويس شخصية الشاعر والفنان التشكيلي الإيرلندي كريستي براون في فيلم My Left Foot للمخرج جيم شريدان سنة 1989 والذي فاز عنه بجائزة أوسكار أفضل ممثل في دور رئيس. في هذا الفيلم يتقوقع في ذاتية زائدة عن الحد، وهو ما يجعله يجلس على الكرسي المتحرك الذي اعتاد الفنان التشكيلي استخدامه في حياته، ولم يغادره داي لويس طيلة فترة التصوير، بالإضافة إلى خضوعه لتعلم الرسم بقدميه في أحد معاهد التأهيل النفسي والجسدي للمعاقين. وتسببت جلسته على الكرسي المتحرك لفترات طويلة -إذ كان يرفض مغادرته- في كسر ضلعين ما زالا يؤلمانه إلى اليوم. ونجح في أن يتقمص دور الرسام إلى أبعد الحدود حتى إن فريق العمل كان يتعامل معه كإنسان غير قادر على الحركة. فكانوا يقومون بإطعامه وتغيير ملابسه ونقله إلى دورة المياه. وبذلك استطاع داي لويس أن يصنع من فيلم عادي فيلماً مذهلاً بفضل أدائه المتميز للشخصية، والذي حاكى فيه الحقيقة بدرجة كبيرة قد تصل إلى التطابق. استمر داي لويس في تقمص الأدوار والتدريب على أدائها قبل بدء التصوير بفترة كافية حتى يصل إلى الإتقان المنشود، وذلك منذ أدواره الأولى، بداية من دور شخصية الرسام كريستي براون، والطبيب توماس التشيكي إلى الأدوار التي صنعت اسمه، ورفعته عالياً في سماء النجوم. في الحقيقة، ودون إهدار الوقت في التفكير في مَنْ هو أهم وأكثر الممثلين موهبة وشهرة، من الممكن أن نقول ببساطة إنه السير دانيال داي لويس صاحب الأداء الاستثنائي والمتفرد الذي كان السبب في حصوله على جائزة الأوسكار عن الدور الرئيس ثلاث مرات، وهي السابقة الأولى في تاريخ الجائزة، ليعد الممثل الأوروبي والعالمي الوحيد الذي نالها عدة مرات. جَسَّدَ النابغة دانيال داي لويس العديد من الشخصيات المتنوعة، وأثبت موهبته من خلال تقمصه الأدوار الصعبة التي لا يستطيع غالبية الممثلين الموهوبين القيام بأدائها. وقد اعتاد تقمص دوره المقبل، فيبدأ بالتحضير للشخصية الجديدة باستخدام اسم الشخص ومهنته وطريقته في الكلام والتعبير. وكانت صدقية التجسيد والتعبير عن الشخصية التي يؤديها من أهم ما يميز لويس الذي لاقى نجاحاً نقدياً وجماهيرياً واسعاً. الجزار ومن أبرز الشخصيات التي جسدها دانيال داي لويس كانت شخصية «الجزار» في فيلم Gangs Of New York للمخرج مارتن سكورسيزي والذي رشح فيه داي لويس لجائزة الاوسكار لأفضل ممثل، إذ قام بالتدريب على العنف والقسوة، وبتمرينات أداء صعبة تخطت المقاييس التي ينتهجها غيره من الممثلين، لذلك تمكنت شخصية «الجزار» في الفيلم من جذب الانتباه، بل واستحقت أن يتم اعتبارها الشخصية المحورية في الفيلم. فداي لويس أصبح جزاراً حقيقياً وبارعاً خلال استعداده لأداء الشخصية، فجَسَّد دور الرجل الشرير الدموي إلى أبعد الحدود، حيث لعب دور «بل كاتينج» المسؤول عن مقتل والد أمستردام فالين الذي قام بدوره ليوناردو دي كابريو والذى من المفترض أن يدور الفيلم حول مأساته، أي مأساة هذا الطفل الذي شهد مقتل والده على يد الجزار «بل كاتينج». ولكن روعة أداء داي لويس لدوره، على الرغم من قسوته ودمويته، لفتت إليه الأنظار وجذبت إليه المتابعين، إذ تأثر الناس بدمويتهوقسوته المفرطة والممنهجة إلى آخر لحظات الفيلم. وتعددت أشكال التعبير عن هذه القسوة من خلال مشهد بتر ذراع الأب الذي يحتضر فيما يحاول ضم طفله للمرة الأخيرة، وفي مشهد لعب الورق عندما يغرس خنجراً في ظهر شريك اللعب معللاً ذلك بأنه -الشريك- أزعجه بصوت غير لائق يتمثل في صوت صرير أحد أدراج الطاولة أثناء اللعب. لم يظهر دانيال قاسياً في هذا المشهد فقط، ولكنه أدى دور عامل المناجم «دانيال بلاينفو» بشكل أكثر تميزاً من أدواره التي ظهر فيها قاسياً شديد البأس. فإذا كان قد قتل والد الطفل أمستردام فالين في فيلم Gangs of New York أمام طفله، فإن «بلاينفو» عامل المنجم أشد قسوة على طفله الوحيد في فيلم There Will Be Blood للمخرج بول توماس أندرسون، إذ ضاق الخناق عليه من قبل منافسيه في عالم استخراج النفط من قلب التربة الأميركية البكر التي كان هذا السائل الأسود يعد مادة مستحدثة على اقتصادها، وأصيب طفله في موقع الحفر في الوقت الذي كان يجدر به أن يقف إلى جواره لعلاجه وطلب المساعدة الطبية، ولكنه هرول منتشياً إلى «البريمة» التي فجرت بئر بترول جديدة في أرضه. وليس هذا فحسب، ولكنه تخلى عن طفله في إحدى محطات القطار خشية أن يستغله منافسوه في الضغط عليه للتنازل عن آبار النفط. أبراهام لينكولن إن أحد أروع أدوار دانيال داي لويس على الإطلاق، كان تجسيده شخصية الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة الأميركية أبراهام لينكولن، الذي تولى رئاسة الولايات في الفترة بين 1861 و1865، في فيلم «لينكولن» 2013، والذي يعد واحداً من أقوى أفلام المخرج ستيفين سبيلبيرج على الإطلاق، حيث ركز الفيلم على السنوات الأخيرة من حياة الرئيس الأميركي وجهوده لإلغاء الرق والعبودية، حيث جسد داي لويس شخصية الرئيس بشكل انسيابي ومتماهٍ مع شخصية الرجل الحقيقية، وابتعد عن الجفاف الذي اعتادته الدراما في تقديم الشخصيات التاريخية، بل وأصر على أن يقدم شخصية القائد المهموم بقضايا بلاده ومحاولة إصلاحها عن طريق تغيير وجهة نظر وقوانين العالم بأكمله. وكما تلقى داي لويس تدريبات على إتقان أدواره السابقة، فقد طلب من المخرج سبيلبيرج مدة عام كامل للاستعداد للدور. في ذلك الوقت، قرأ أكثر من 100 كتاب حول شخصية لينكولن وعمل مع فناني المكياج لنحت جسده بطريقة يكون شبيهاً فيها بجسد الشخصية. رُشح الفيلم لـ8 جوائز جولدن جلوب، حصل فيها على جائزة أفضل ممثل درامي. كما ترشح الفيلم لـ12 جائزة أوسكار فاز فيها دانيال داي لويس بجائزة أفضل ممثل عن دور رئيس. خيوط وهمية وأخيراً، في فيلم «خيوط وهمية»/ Phantom Thread في 2017. أقول «أخيراً» طبقاً لقرار داي لويس الاعتزال بعد أن جسد دور «رينولدز» الرجل البريطاني الناضج والمشهور بتصميم الملابس النسائية التي يصنعها للملكات وسيدات العائلات الثرية، حيث انطلق لسانه متحدثاً بلهجته الانجليزية الطبيعية لأول مرة منذ 1988 في فيلم Stars and Bars. تميزت شخصية «رينولدز وودكوك» بجمود المشاعر وصلابة الملامح، وتجنبه الاقتراب من النساء والبعد عن التورط في الحب. واستلهم داي لويس دوره من شخصية المصمم الإٍسباني «كريستوبال بالنسياجا» المعروف بطريقة حياته المترهبنة والبعد عن وسائل الترفيه والهوس بفكرة الكمال والاستغراق في عمله حتى النخاع. من هذا الإلهام ينجح داي لويس في تقمص دور صعب الإدارة، من خلال قسوة ملامحه وأدائه دور رجل ينزعج من صغائر الأشياء مثل صوت الملعقة المعدنية في أثناء تذويب صديقته ومساعدته «الما» قطعة سكر في فنجان الشاي أو صوت مضغ الخبز المحمص علي مائدة الإفطار، نرى الصراع النفسي من خلال عزف داي لويس لسوناتا بين إحساسين متساويين في القوة. والرغبة في الاعتراف بالحب ورفضه في أن يدخل هذا الحب حياته. معزوفة أداء تخترق النفس البشرية. ليثبت د لويس -دون مبالغة- إنه الممثل الأكثر تميزاً على مر تاريخ السينما الأميركية والأوروبية، إذ استطاع ترويض الوحش داخل شخص رينولدز ليظهر الجزء الملائكي منه بسلاسة منقطعة النظير وغير مسبوقة. رُشح الفيلم لـ13 جائزة منها: أفضل ممثل، وأفضل ممثلة مساعدة، وأفضل موسيقى تصويرية، وأفضل تصميم ملابس بالبافتا 2018، وأحسن ممثل وأحسن موسيقى تصويرية بالجولدن جلوب 2018، و6 جوائز بالأوسكار لهذا العام. ويذكر أن دانيال داي لويس لم يشاهد الفيلم بعد الانتهاء من تصويره، بل فضل أن يعتزل التمثيل في هدوء تاركاً ثروة سينمائية إبداعية لأجيال حالية وقادمة.
مشاركة :