لدى دانيال داي لويس ميل دائم للاختفاء. كان الممثل البريطاني يتخلص من شخصيته الخارجية خلال الأفلام القليلة التي لعب دور البطولة بها، أو كما يقول تحديداً كان «يستنزف ذاته»، حتى يصبح داخل الشخصية التي يؤديها. كان ينسحب طوال مسيرته المهنية لأشهر أو سنوات أحياناً داخل نمط حياة منعزل، ويهرب من أعين الجمهور، وعالم هوليوود أيضاً.الآن يعلن داي لويس، البالغ من العمر 60 عاماً، الذي ينظر إليه كثيرون باعتباره واحدا من أفضل ممثلي عصره، الابتعاد عن صناعة السينما تماماً ونهائياً دون إبداء أي أسباب، حيث أكدت المتحدثة باسمه في بيان للصحافيين، أن الممثل قرر الاعتزال.قالت ليزلي دارت، المتحدثة باسمه: «لن يعمل دانيال داي لويس بعد الآن ممثلا. إنه ممتن جداً لكل من تعاونوا معه، ولجمهوره طوال السنوات الطويلة الماضية. إنه قرار شخصي خاص، ولن يكون له أو لأي شخص آخر يمثله أي تعليقات أخرى على هذا الأمر.بذلك، يكون آخر أفلام دي لويس هو «فانتوم ثريد» من إخراج بول توماس أندرسون، الذي تم تصويره بالفعل، ومن المقرر أن يتم عرضه في ديسمبر (كانون الأول) بحسب وكالة أنباء «أسوشييتد بريس».ويمثل هذا الاعتزال عن عالم السينما نهاية لمسيرة صنعت تاريخ هوليوود، وأثارت جدلا واسعاً مثلما حظيت بالثناء والتقدير. لقد تم ترشيحه لنيل جائزة الأوسكار خمس مرات، وهو الشخص الوحيد الذي فاز بالجائرة كأفضل ممثل ثلاث مرات عن دوره في كل من «ماي ليفت فوت» «قدمي اليسرى»، و«ذير ويل بي بلاد» «سيكون هناك دماء»، و«لينكون».مع ذلك، ربما يشتهر داي لويس كثيراً بكونه واحداً من أفضل أبناء جيله من الذين يتبنون أسلوب التمثيل المنهجي، الذي يعتمد على الانغماس والاندماج في التجربة. بفضل هذا الأسلوب حظي الممثل الراحل مارلون براندو بالتقدير. ويتميز هذا الأسلوب بأنه أصيل، وجريء، وصارخ، ومفعم بالقوة والرجولة كما كتبت أنجيليكا جيد باستين في مجلة «أتلانتيك».لقد شبّه الكثيرون داي لويس ببراندو بالفعل، وبخاصة في أعقاب الإعلان عن نبأ اعتزاله، حيث كتب أحد المعجبين به على موقع «تويتر»: «لقد كان داي لويس مارلون براندو عصرنا الحالي». مع ذلك يعجز مصطلح «التمثيل المنهجي» عن وصف الدرجة التي كان داي لويس يتقمص بها الشخصيات التي يؤديها من الناحية البدنية والعاطفية، حيث كان يصل إلى الحد الأقصى الذي لم يتمكن سوى القليلين من الوصول إليه.حين كان يؤدي دور كاتب مصاب بشلل دماغي في فيلم «قدمي اليسرى»، كان يجلس طوال الوقت على الكرسي المدولب، وكان فريق العمل يتولى إطعامه. وحين كان يستعد للتمثيل في فيلم «آخر أفراد قبيلة موهيكان»، أقام في مكان ناءٍ لمدة أسابيع يصطاد، ويسلخ جلد الحيوانات، بل وينام إلى جانب بندقيته، كما ذكرت صحيفة الـ«غارديان» في عام 2002، حين كان يشارك في فيلم «باسم الأب» قضى ليالي في زنزانة داخل سجن. وقبل تصوير فيلم «البوتقة»، شيد المنزل الذي ستعيش فيه الشخصية باستخدام أدوات تعود إلى القرن السابع عشر. وعند تمثيل فيلم «الملاكم» عام 1997، كان يتدرب على القتال مرتين يومياً لمدة ثلاثة أعوام تقريباً حتى قال مدربه إنه يستطيع أن يتجه نحو الاحتراف كما كتبت صحيفة الـ«إندبندنت» في ملف مطول عنه، ومقابلة معه.كذلك، أصيب أثناء تصوير فيلم «عصابات نيويورك» من إخراج مارتن سكورسيزي عام 2002، بالتهاب رئوي، لكنه أصرّ على ارتداء معطف خفيف كان يوجد في القرن التاسع عشر فقط بحسب صحيفة الـ«إندبندنت». كذلك كان يتجول في روما أحياناً حيث يتم تصوير الفيلم، ويفتعل شجارا مع غرباء. وصرح لصحيفة الـ«إندبندنت» قائلا: «كان يجب أن أستعد. سوف أعترف بأنني قد وصلت إلى حد الجنون تماماً». ورفض الخروج من الشخصية أثناء تصوير الفيلم الذي تناول حياة أبراهام لينكون، حتى أنه كان ينهي رسائل نصية مع الممثلة الأميركية سالي فيلد المشاركة في الفيلم بالحروف «إيه بي إي».ووصف دي لويس، خلال مقابلة مع محطة «بي بي سي» عام 2013، العملية الدقيقة التي قام بها لتقليد صوت أبراهام لينكون، التي تطلبت بحثاً طويلا واسعاً في اللكنات المنتشرة في المقاطعات التي نشأ فيها لينكلون وهي إنديانا، وإلينوي، وكنتاكي. وقال: «أبدأ في سماع صوت لا أحاول محاكاته. إنه صوت الأذن الداخلية»، ثم «أبدأ مهمة محاولة إخراجه من داخلي».يبدو أن داي لويس كان يخشى في الكثير من مقابلاته النادرة الحديث عن «التمثيل المنهجي»، الذي يؤكد أنه ليس تدريباً علمياً أو انعزالياً؛ فالانغماس في تجربة أداء الدور، ومعايشة الشخصية طوال مدة تصوير الفيلم ما هي إلا محاولات من داي لويس لـ«إطلاق العنان للخيال»، كما ذكر لمحطة «بي بي سي».وقال دي لويس: «وظيفتك هي استنزاف ذاتك. ما يساعدني على القيام بذلك في حالتي هو القفز من وإلى العالم الذي نسير فيه بلا أفق أو مدى لنصنعه لأنفسنا».كذلك يعرف عن دي لويس انتقائيته، وحرصه في اختيار الأفلام التي يشارك فيها، فكما صرح لمحطة «بي بي سي»، إنه لا يقبل سوى الأدوار التي يشعر بأنه يستطيع من خلالها حقاً تقديم شخصيات مثيرة للاهتمام تعيش حياة «تختلف كثيراً عن حياتي». وقال: «لغز تلك الحياة هو ما يجذبني نحوها».مع ذلك، إنه «ممثل غامض مربك» كما ذكرت صحيفة الـ«غارديان»، حيث يشتهر بالابتعاد عن عالم صناعة الأفلام فترة طويلة. في نهاية التسعينات، وردت أنباء عن تدربه كإسكافي في فلورنسا.نشأ داي لويس في غرينيتش في جنوب شرقي لندن، ولديه جوازا سفر بريطاني، وآيرلندي، وكان لديه منزل في ويكلو في آيرلندا. ومنحه دوق كامبريدج لقب فارس عام 2014. تزوج داي لويس من ريبيكا ميلر، الكاتبة والمخرجة، وابنة آرثر ميلر، الكاتب المسرحي الأميركي الشهير، ولديه ثلاثة أبناء.انتهت مسيرته المهنية ممثلا مسرحيا منذ عقود عندما غادر خشبة المسرح أثناء أدائه دور هاملت، زاعماً أنه قد رأى شبح والده، الشاعر الراحل سيسيل داي لويس، كما كتب برهان وزير في صحيفة الـ«غارديان».سيكون فيلمه المقرر عرضه في ديسمبر (كانون الأول) هو أول ظهور له بعد خمس سنوات. وصرح في مقابلته مع «بي بي سي» قائلا: «إيقاعي بطيء» مقراً بأنه يبدو أنه «يختفي» من وقت إلى آخر. مع ذلك، يؤكد أن فترات الراحة، التي يهرب فيها من أعين الجمهور والناس، هي ما تتيح له الغوص مرة أخرى في أعماله. وقال: «ما أفعله هو الاتصال مرة أخرى بالحياة».وقد أشار إلى زوجته في خطاب فوزه بجائزة الأوسكار عام 2013 قائلا إنها عاشت مع «رجال في غاية الغرابة» طوال السنوات الماضية. وأضاف الممثل، الذي رغم أدائه أدوارا جادة دائماً، يضفي روحاً حماسية واقعية على المقابلات، طالما أنه لا يؤدي وقتها شخصية ما: «لقد كانوا أشخاصا غرباء، وربما يكونون أكثر غرابة إذا نظرنا إليهم بصفتهم مجموعة».وقال داي لويس مداعباً أثناء الحديث مع مراسلين بعد فوزه بالجائزة، إنه كان خارج الشخصية في تلك اللحظة كما ذكرت صحيفة الـ«تلغراف». وقال: «إذا عدت إلى الشخصية بطريق الخطأ، يمكنكم التدخل على نحو ما، مثل استخدام مناورة هيمليك، أو باستخدام أي طريقة أخرى تتعاملون بها من الممثلين الذين يعلقون داخل الشخصيات».لذا؛ ربما كان هذا هو ما ينتظر داي لويس، وهو الهرب الدائم من الأضواء، التي لم يكن يشعر تحتها بالارتياح. قال بعض معجبيه مداعباً: إن «أسباب ودوافع أخرى ربما تكون وراء هذا القرار».*خدمة «واشنطن بوست»- خاص بـ {الشرق الأوسط}
مشاركة :