الأديب القاص الروائي محمد عبدالملك للثقافي: موت صاحب العربة كان إيذانا باختيار طريقي في الحياة!

  • 1/20/2019
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

لصاحبك الذي أحببناه في مجموعتك موت صاحب العربة حنين لا يهدأ ورسائل علمتنا حب الحياة، فأي الدروب التي أسعدتك وأنت تخط ألم هذا المجهد بالكدح؟ موت صاحب العربة كان إيذانا باختيار طريقي في الحياة. ذهبت بعد ذلك ولم أرجع. أخذني صاحب العربة في رحلة شقاء طويلة امتدت كل العمر، لكنها كانت رحلة ممتعة، حققت بها ذاتي، ورفعت صوتي بالاحتجاج والرفض والاعتراض على نظام الكون الجائر، كما منحتني الكتابة الشعور بالرضا. كنت أتأمل عبدالله جيبان الشيخ القصير القامة النحيل وهو يدفع عربته الطويلة التي تفوق حجمه كثيرا، حتى يبدو خلفها ضئيلا للغاية مثل شبح، والعربة التي تقوده ويقودها، وتجره إلى لقمة العيش. كان للعربة هدير مؤلم وصدى في نفسي، وكنت أشفق عليه من هذا الألم، في عمر صغير لم أكمل فيه الرابعة عشرة، وكأنني أنا السبب في هذا البؤس. هو وصمة عار على رداءة هذا العالم، (كان شيخا تجاوز السبعين وكنت طفلا) ونسيته بضعة سنين، حتى جاءنا خبر موته. كان يعيش وحيدا في بيت من سعف النخيل ظلت جثته عدة أيام وليمة للفئران والقوارض بعد أن كان وليمة للبشر. كان ينطلق من حالة بن أنس (الحورة) مع شروق الشمس بعربته الطويلة، ثم يعود في المساء قاطعا أميالا طويلة في حر أغسطس ولهيبه. أنا مدين لهذا الشيخ الذي لم يغادر مخيلتي حتى هذه اللحظة، فهو الذي قدمني للقراء الذين احتفوا بِنَا معا، ثم رحت أكتب على هذا المنوال. كان صاحب العربة عندي رمزا للكفاح من أجل البقاء. يقال إننا في زمن انحدرت فيه كل المفاهيم وماتت فيه كل مفاهيم التعاطي بمحبة وأصبحت الثقافة في فعالياتها المتعددة بوقا أكثر منها رسالة، فكيف لك أن تقرأ هذا التغير؟ هذا السؤال يتعلق بالسلوك الاجتماعي والأخلاقي عند البشر، والمثقفون قبل كل شيء هم بشر، يتحول سلوكهم مع المتغيرات الكثيرة في الحياة، عندما لا يتعامل الناس مع بعضهم بمحبة، فهم في هذه الحالة يفقدون أهم مميزاتهم كبشر. نحن نقرأ ونسمع كثيرا عن (الزمن الجميل)، الذي مضى ولن يعود، وكما يعتقد الكثيرون فإن القيم في تردٍ، مع استشراء النزعات المادية، وانتشار الأنانية. وعندما يغيب الحب تحضر العداوات. نحن في حاجة إلى الحب في كل لحظة، إنه طبع نبيل. ما قد تراه في الأوساط الثقافية من النزعات الأنانية، كان موجودا دائما وفي كل الأزمنة، قد يزيد أو ينقص، لكنه يظل موجودا. لا أعتقد أن الأنانية خاصية لغير المثقفين. لا تتوقع أجواء مثالية في الأوساط الثقافية. الأنانية تجعل البعض يحول المناسبات الثقافية إلى إعلان تجاري، لا تنسى أن كل جيل سابق يعتبر الجيل الذي بعده سيئا للغاية وهذا موقف أناني لا يخلو من غيرة. لا يحتاج الكاتب إلى هذه الأجواء إن كانت ملغمة وسيئة، ما يحتاج إليه هي الورقة والقلم، أو الآيباد أو الكومبيوتر، كما يحتاج إلى العزلة فهي أفضل الأصدقاء للكتابة. نحتاج إلى مساحة أكبر من التسامح، فالمناسبات الثقافية هي دلالة صحية تشير إلى عافية المجتمع وتوقه للتقدم، هناك إيجابيات كثيرة. لننظر إلى النصف الممتلئ من الكأس. لم نقرأ سيرتك الإبداعية إلا من خلال نتاجك المتنوع، فهل سوف يفاجئنا ملك في كتابة سيرته الأدبية والإنسانية؟ سيرة الكاتب الذاتية موجودة فيما يكتبه طوال حياته وبالتفصيل، فنحن نكتب عن التجارب التي نمر بها في الحياة، وأفضل الكتابات وأصدقها وأكثرها نجاحا هي تلك التي تصدر عن تجربة، ولو تبصرنا في مؤلفات الأدباء والكتاب على مر العصور لوجدنا روابط ووشائج بين كتاباتهم وحياتهم الشخصية، صحيح أن هذه الكتابات لا تتوافق وتتطابق بشكل كامل ودقيق، فالأدب لا يكتب عن التجارب بحذافيرها، ولابد من الخيال الذي يغني الكتابة. يرى بعض النقاد أن قوة الكتابة وجاذبيتها هي في الخيال، يقول أينشتاين إن الخيال أوسع من المعرفة، هناك ما يسميه الروائي جارسيا ماركيز (صاحب نوبل) التحايل الإبداعي، وفيه يضيف الكاتب ما يعمق الأحداث ويمنحها حيوية وحضورا، كتّاب آخرون يسمونها توابل الكتابة؛ إذن الكاتب يضيف على سيرته الذاتية أمورا جديدة لم تحدث له. هناك ما يسمى النمذجة في الأدب؛ وهي شخصية فرد واحد تغطي شريحة من البشر، يلجأ الكاتب إلى هذه النمذجة لتعميق الشخصية لتبدو أكثر امتلاء لتمثل طبقة أو فئة. ستجدني فيما كتبت وأكتب أطل على القارئ من نافذة الورق. لا يذهب كل الكتّاب إلى كتابة سيرتهم الذاتية فقد يكررون حوادث ومواقف كتبوا عنها في رواياتهم، وربما أيضا هم يخشون ألا تكون السيرة ممتعة إذا كتبوها بدقة. في روايتك سلالم الهواء ما يشبه سيرة الألم في تجربتك، فهل لهذه السلالم من طيف دفع بك نحو الكتابة بألم قرأه القارئ واستشعره في فضاء هذه السلالم؟ هو أكثر من طيف، وأقسى من ألم، توا قلت: إن الكاتب يكتب ما عاشه ورآه واختبره جيدا وأثر في سياق حياته، وحمله بأثقال المعاناة الطويلة، الكتابة الخارجة من الألم هي أفضل الكتابات، لكل منا جروح لا تندمل، وقد يظل نزيفها معنا مدى الحياة، ونحن نحتملها لأننا لا نملك غير ذلك، بعض هذه الآلام مشتركة مع آلام الآخرين، وهناك أوجاع شخصية طبعا، الأقدار توزع علينا الآلام بالجملة، وبلا عدالة، وهي في الغالب آلام نفسية قاسية لا ننتهي منها إلا بمغادرة هذا العالم الجميل والبائس. سلالم الهواء هي السلالم الوهمية التي تخدعنا، والتي نخدع أنفسنا بها من دون توقف. نحن نصنع هذه السلالم لنتغلب على هشاشتنا، لكنا لا نرتفع ولا نصل إلى الذروة لأن السلالم وهمية، غير موجودة، لذا نحن لا نرتفع. نحن العرب ثابتون في مكان ومقام واحد منذ القرن الثاني عشر الميلادي، منذ أطفأ العرب قنديل العقل وهم في ظلام دامس. كان الفيلسوف العربي ابن رشد (القرن الثاني عشر الميلادي) يريد عقلنة المجتمعات العربية، فأحرقوا كتبه ونفوه من الأندلس. هكذا نحن الآن خارج التاريخ، العالم الحديث يرتكز على العقل، ونحن نغيب العقل. إذن هذا ما عنيته بسلالم الهواء. الرواية رمزية اسما ومضمونا. إذن ما نحتاجه هي السلالم التي ترفعنا إلى الأعلى. أعتقد أننا نحتاج إلى سلالم العقل، إنه أرقى السلالم وأفضلها وأقدرها على الصعود. كانت مفارقة غريبة لي، عندما قرأت نصا لابن رشد كتب في القرن الثاني عشر الميلادي، يعتبر فيه المرأة مساوية للرجل وكفؤا لقيادة المجتمعات والدول، بعد ثمانية قرون يخرجون لنا ليقولوا إن المرأة مكانها البيت. نحن نعيش في أوهام خادعة كثيرة لا نشعر بها ولا نراها، أيضا هناك في هذه الرواية ما عانيته على المستوى الشخصي من آلام نفسية بسبب المرض، ومزجت في الرواية الخاص بالعام. فهي رواية مركبة أحب لغتها وأعتقد أنها أفضل ما كتبت. من المعلم الأول في تجربة ملك السردية أو أكثر من معلم تدين لهم بالحب؟ نجيب محفوظ ويوسف إدريس، وتشيخوف وموباسان، هذه الأسماء هي الأكثر تأثيرا علي. وهي أسماء كبيرة. عند كل واحد من هؤلاء خصائص مختلفة، أدمنت قراءة هؤلاء، وعدت لهم عدة مرات ومازلت أعود إليهم، وبالإضافة إلى المتعة التي جنيتها وعشتها مع هؤلاء، كنت أتأمل تقنياتهم في الكتابة، ولغتهم الخاصة، وأماكن الضعف والقوة. (داخل كل كاتب ناقد، فالكاتب لا يقرأ كما يقرأ الآخرون الذين لا يمارسون الكتابة. الكاتب هو خبير في الكتابة، مثل صائغ الذهب الذي يعرف الذهب تمام المعرفة، كما يجيد سباكته وتشكيله. اللغة هي ذهب الكاتب، وهو يعرف عندما يقرأ كتابا أين وفّق الكاتب، وكيف استطاع صياغة نصه باقتدار، كما يفرق بين تقنيات الكتابة بين كاتب وآخر. الكاتب يتفحص جيدا ما يقرأه. يدقق أكثر في الأنساق اللغوية لكل كاتب، وتقنياته، ليستفيد منها، بالطبع لن يقلدها، فما يكتبه هو مزيج فيه من كل هؤلاء، لكنه يكتب نصه الجديد. هل يسكن قلبك نبض الشاعر أم إن الشاعر لديك موجود ضمن خرائط لدنيا أجمل ما فيها تعب لا نستطيع الفكاك منه؟ الشعر موجود في تناغم الكون والطبيعة، وأنا أنظر إلى هذا التناغم فيهما. الكاتب ينظر إلى الحياة في المجاز الذي يتعدد بتعدد الكائنات بأنواعها المختلفة، والمجاز موجود في السرد الحديث. في وجدان الكاتب شاعر لا يهدأ، ويرى المحيط بشفافية؛ البشر والطبيعة والأشياء. الحياة هي قصيدة طويلة مؤلمة وجميلة. أستمتع بالطبيعة التي كنت أعبرها وأنا في غفلة. كلما كبرنا كبرت الأسئلة واتسعت المخيلة، وهكذا يعبث الشعر بمخيلتنا، المؤسف أننا لا نستطيع أن نقول الكثير مما هو مخزون داخلنا. أسأل نفسي هل كانت الطبيعة بهذه الفتنة التي أتلذذ بها الآن حد النشوة، وهل كان العالم بهذه القسوة التي أراها الآن، بهذه النظرة أرى كل شيء من حولي شعرا، الآن أفرح أكثر وأتألم أكثر، وأتساءل هل أنا تغيرت أم أن العالم تغير. الشعر يشكل التفاصيل الصغيرة من حولنا. في السرد نحن نبحث عن التناغم والإيقاع والموسيقى، وكل ذلك أدوات شعرية، كونك تكتب سردا لا يعني أنك بعيد عن الشعر؛ لو كان الأمر كذلك لما وجد شعر النثر. وسريعًا انتهى حواري مع محمد عبدالملك وكنت في داخل نفسي أتمنى ألا ينتهي، لأن الحوار معه متعة لا تعادلها متعة أخرى!

مشاركة :