اشتهر الشعراء العراقيون بحفظ نصوصهم الشعرية وإلقائها أمام الجماهير من دون الاستعانة بالكتب أو الأوراق أو المذكرات وهي ميزة انفردوا بها عن كثير من الشعراء العرب الآخرين الذين يواجهون الجماهير ويستعينون بأوراقهم ومدوناتهم. ليس من السهل أن تحفظ نصَّك الشعري حتى لو كنت شاعرًا مُجيدًا وتتمتع بكل المواهب والحضور أمام الجماهير وهو أمر في غاية الأهمية لو وصلت إلى هذا المستوى. لكن هناك من يحفظ ويجاريه آخر وحين تستمع إلى شاعرين يتحاوران بلغة الشعر أمام الجماهير أو في القنوات الفضائية المباشرة تشعر بالمتعة بل تذوب كالثلج في الماء أمام منطق الشاعرين وجمال صورهما الشعرية واستعاراتهما المكنية بما فيها من الرموز والموسيقى ووحدة القافية. إن من أسباب ضعف الإلقاء عند الكثيرين من الشعراء في العصر الحديث يعود إلى سوء الحفظ وإلى عديد من الأسباب الموضوعية وأنا أرى أن السبب الأول يكمن في النص ذاته لأنه قد يكون كُتبَ من دون معاناة أو تجربة وأحيانًا يتم استئجار الشعراء والكتَّاب ليقدموا النصَّ جاهزًا ومُعلبًا وعلى هذا الأساس يفقدُ النصَّ روحه وتلقائيته وعلى العكس لو كان مولودًا بعد مخاض طويل. عدد قليل من الشعراء العراقيين هم من يحفظون نصوصهم الشعرية عن ظهر قلب وهم يُثبتون عكس الأسباب التي ذكرناها آنفًا لأن النص إذا وُلد بالتلقيح الصناعي يختلف عن النص الشعري المولود بالقرار الإلهي. أنا أعرف شخصيا وعاصرت الكثيرين من الشعراء والمنتجين والفنانين من يستعيرون الأقنعة ويُنسبونها إلى أنفسهم وينشرونها لكنك حين تواجههم بالحقيقة وتطلب منهم أن يقرأوا عليك شيئا من إنتاجهم يعتذرون حتى لا يفتضحوا ويسقط القناع الذي يُخفي وجوههم. وفي هذا العصر الذي نعيشه هناك من يقرأ النص الشعري الذي أنتجه أمام الجماهير ويشعر بالارتباك والخوف وكما نقول بالعامية (يتلخبط) وهو دليل على أن هذا النص لم يولد بشكل طبيعي ومن ثم فإن حياته تكون قصيرة وشعره مصاب بكثير من الأمراض التي تنكشف أمام الجماهير. والسؤال المطروح لماذا نحفظ الكثير من الأبيات الشعرية التي لم نكتبها ونضرب بها الأمثلة في حياتنا اليومية وهي من إنتاج شعراء آخرين لم نسمعهم أو نتحدث معهم بل قرأناها في الكتب والروايات؟ سوف أبدأ بالعصر الجاهلي وأعرض بعض الأمثلة التي نتداولها حتى يومنا هذا بإيجاز شديد. قال عنترة بن شداد الكثير من الشعر الحماسي الذي نردده في العديد من المناسبات وحفظناه عن ظهر قلب ومنه على سبيل المثال لا الحصر: «وسيفي كان في الهيجا طبيبا يُداوي رأس من يشكو الصداعا» وقال المتنبي: «أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صممُ» وقال المعري: «هذا ما جناه عليَّ أبي وما جنيت على أحد». وشيء قليل من عصرنا قال الشاعر علي عبدالله خليفة: «عذاري لي متى تسقين ذاك النخل لبعيد عطاشى ننتخي يمج ونرفع صوتنا ونعيد نشوف العيد عيَّد بالنخل وإحنا بليا عيد» وهناك العديد من الأمثلة لكنني أكتفي بالقول إن النص الشعري الذي يولد مشوها بالتلقيح الصناعي لا تحفظه البصيرة ولا يتقبله القلب ويُهمل ويكون مصيره النسيان. وفوق كل ذي علم عليم. Sah.33883@hotmail.com
مشاركة :