في حوالي عام 2009 انتشر كتاب أصفر بعنوان "إدارة التوحش: أخطر مرحلة ستمر بها الأمة"، لمؤلفه أبو بكر ناجي. وفيه يشرح المؤلف فكر واستراتيجية تنظيم القاعدة، بعد أحداث 11 سبتمبر لتطوير أدائه وتثبيت وجوده، بين الشعوب العربية التي يستهدفها التنظيم ويخطط لقيادتها. والكتاب صادر عن مركز البحوث والدراسات الإسلامية التابع لتنظيم القاعدة. التوحش: كلمة وردت في عنوان الكتاب، والمقصود بها عموم حالة الفوضى التي ستضرب وتقطع أوصال دولة ما أو منطقة بعينها إذا ما زالت عنها قبضة سلطاتها الحاكمة. ويرى المؤلف أن هذه الحالة من الفوضى والاضطراب ستكون "متوحشة" وسيعاني منها السكان المحليون. ولذلك فيجب على "القاعدة" التي بدورها ستحل محل السلطات الحاكمة، تمهيدا لإقامة الإمارة الإسلامية، النجاح في "إدارة التوحش" إلى أن تستقر الأمور فيها، وعليه الوصول إلى هدف إقامة الدولة ثم الخلافة الإسلامية. بغض النظر عما ورد في الكتاب من تفاصيل، فإن ما يلفت الانتباه فيه هو فكرة الكتاب بحد ذاتها، والتي تمثلت بعنوانه "إدارة التوحش". وذلك من حيث إن إدارة الشيء تعني التعاطي مع معطياته بذكاء وحسن تصرف من أجل تنميته والاستفادة منه. نعم لقد اقترن مصطلح الإدارة في أذهاننا بالعملية الإيجابية، مثل إدارة المال والتنمية والتحضر ولم يخطر ببالنا أنها يوما ما ستقرن بعملية سلبية كإدارة الفوضى والتوحش. فمن المعلوم لنا بالضرورة أن التوحش يتوجب القضاء عليه واكتفاء شره، لا إدارته من أجل تنميته والاستفادة منه، لكون التوحش لا يستفيد منه الناس وإنما المخلوقات المتوحشة لا غير. ولكن هذا ما خلصت إليه التنظيمات التكفيرية والإرهابية وعلى رأسها "القاعدة". فهل نجحت في ذلك؟ وإذا كانت قد نجحت؟ فما سر نجاحها؟ وأين سيأخذنا نجاحها؟ عندما خرج كتاب إدارة التوحش جميع المعلقين عليه من العرب والغربيين والمخططين الاستراتيجيين والأمنيين، لم يأخذه أي منهم على محمل الجد. والسبب في ذلك استبعادهم وجود الفوضى في ظل وجود دول عربية أقرب ما تكون للدول الأمنية منها لأي شيء آخر. ولكن الذي حدث، وللأسف الشديد، هو بالضبط ما توقعه محللو ومخططو "القاعدة"، وهو حلول الفوضى وانتشارها في معظم أنحاء العالم العربي وولوج "القاعدة" لعمق ومعمعة هذه الفوضى وإدارتها لصالحها، عن طريق تغذية وإدارة التوحش فيها، والتي كانت مستعدة له. وأعتقد أن السبب كون المحللين العرب وحتى المخططين منهم - ناهيك عن الغربيين - قد ركزوا في تحليلاتهم وتوقعاتهم على الأنظمة الرسمية العربية، وغابت عنهم حقيقة الواقع الشعبي العربي بثقافته الشعبوية المهترئة، وهو المحرك الحقيقي لإيقاع الأحداث في المجتمعات العربية. المسألة بالنسبة لمخططي "القاعدة" هي زعزعة الأمن الداخلي في المناطق المستهدفة وخلق الفوضى فيها، ثم استغلاله بإدارة الفوضى فيها، وتحويلها إلى محيط وبيئات متوحشة من أجل التسلق على قمتها والتحكم بها. إذاً فهنالك مرحلتان يجب أن تتخطاهما "القاعدة" من أجل خلق التوحش وإدارته وتنميته بنجاح للقبض عليه ثم التحكم به. المرحلة الأولى كانت غير مضمونة، وهي خلق الفوضى في المناطق المستهدفة، لكون معظم الأنظمة العربية مستعدة للتفريط بأي شيء إلا أمنها الداخلي، وقد نجحت في ذلك لعقود عديدة، وعندما نشر كتاب إدارة التوحش، لم يتم أخذه بمحمل الجد. أما خلق البيئة المتوحشة من قبل "القاعدة" في المجتمعات المستهدفة من رحم الفوضى التي قد تنفجر بين ليلة وضحاها، فهذا بالنسبة لمخططي "القاعدة" شبه مضمون. وذلك كون المجتمعات المستهدفة من قبل "القاعدة" هي أقرب إليها فكريا وأيديولوجيا، حتى في ظل عيش هذه المجتمعات تحت أنظمتها. بسبب إخفاق التنمية الحضارية وحتى المادية في تلك الدول القمعية، التي لم يكن لها خطاب إنساني حضاري يساعد مجتمعاتها على التعاطي مع معطيات العصر وتغيراته من خلال إصلاح ديني وتعليمي وثقافي نهضوي تنويري، يتماشى ومعطيات العصر. بل تركوا إدارة المجتمعات دينيا وتعليميا وثقافيا للقوى التقليدية التابعة لها، والتي هي كذلك أقرب فكريا لـ"القاعدة" منها لأنظمتها. أي أنه حسب مخطط "القاعدة" فإن المجتمعات العربية أقرب لها دينيا وثقافيا وأيديولوجيا. وعليه عندما حل ما يسمى بـ"الربيع العربي" وكشرت بعض الأنظمة عن أنيابها على بعض، ووقع الصراع البيني الحاد بينها، وأسهمت بتأجيجه الدول الإقليمية المحيطة بها، وساندته ودعمته القوى العالمية الباحثة عن نفوذ وسيطرة لها في المنطقة، تحول الصراع في المنطقة إلى صراع مجنون ومتوحش، دفع ببعض الدول العربية لتسخير جميع إمكاناتها المادية والبشرية والإعلامية لنسف بعضها، بعصبية وفقدان للعقل والضمير لم يسبق له نظير، لا يقبل غير زوال الآخر، وأخذ التأجيج الخارجي يدفع بالصراع إلى أقصى مداه. هنا سقطت بعض الأنظمة وتفككت بعضها، والتي لم يكن داخلها قوى وطنية موثوقة ومؤهلة لإدارة مجتمعاتها والوصول بها إلى بر الأمان، عدا تونس، كنموذج استثنائي. مع انفجار ما سمي بالربيع العربي وتفكك بعض دوله أو تصدعها، تم تقديم المجتمعات العربية لقمة سائغة على أطباق من ذهب وفضة لـ"القاعدة" والحركات التكفيرية. وهذا ما لم تكن تحلم به "القاعدة" مع كونها تهذي به من خلال كتابها إدارة التوحش. وللأسف الشديد ما لم تكن تحلم ولا تهذي به "القاعدة" كذلك، هو أن تسهل لها بعض الدول الإقليمية وحتى الدولية الوثوب على مجتمعات المناطق التي تفككت وحلت بها الفوضى، عن طريق تحشيدها وترحيلها لتلك المناطق المنكوبة، لا بل وبدعمها بالمال والسلاح. إذاً فسيطرة "القاعدة" والمجموعات التكفيرية على بعض المجتمعات العربية التي تفككت أو ضعفت أنظمتها لم تكن بسبب قوتها، وإنما بسبب ميكافيلية السياسات العربية والإقليمية والدولية التي استخدمتها كأدوات انتقام من بعض. والتي بدورها استغلت الوضع أفضل استغلال وأخذت تنتقم من الجميع بلا تفريق ولا تفريط. ومن هنا نجحت "القاعدة" وأخواتها في إدارة التوحش الذي هيأه لها غيرها، وأقامت إماراتها ودولها وخلافاتها الإسلامية، وذلك لوجود حواضن شعبية تتواءم معها وتماثلها في الفكر والأيديولوجيا، وعليه نشبت حروب ضروس بينها، كل طرف يبحث عن حصة أكبر من غنائم الفوضى والتوحش لإدارته والاستفادة منه. وهنا أخذ التنافس بين قيادات "القاعدة" مع بعض، والتنظيمات الإرهابية الأخرى وبعض، للحصول على اللقمة الأكبر. وكان التنافس بينها يكمن في عملية إدارة التوحش، فمن ينجح في إدارته أفضل من الآخر سيستفيد منه أكثر وعليه يستغله لصالحه قبل غيره. وبما أن إدارة الشيء هي تنميتها، كما أوضحنا، إذاً فمن يدير التوحش ليجعله أكثر وحشية هو من سينجح في الأخير في كسب الحرب بينهم. وعليه تم دفع التوحش إلى أقصى حد ممكن، ومن هنا تحولت إدارة التوحش من إدارة التوحش إلى توحش التوحش، أي دفع التوحش إلى أقصى درجاته. وهذا ما نجحت فيه "داعش" عن غيرها من التنظيمات التكفيرية الإرهابية الأخرى. والتنافس بينها لم ينته بعد، والقادم قد يكون أشنع وحشية وتوحشا.
مشاركة :